السوريات والتدبير السياسي: وجهات نظر النساء مهمة
يلاحظ المتابعون للشأن السوري كثرة حضور النساء في وسائل الإعلام التقليدية والميديا الاجتماعية، وهو حضور متميّز يتجاوز أهداف عرض الذات أو إضفاء مسحة جماليّة على المشهد الإعلامي أو تحقيق تكافؤ الفرص بين الجنسين ضمن سياسات إعلامية مُنصفة ليرسي تقاليد جديدة وممارسات مدنيّة منطلقها الأساسيّ: المواطنة المسؤولة التي تجعل كلّ سوريّ/ة معنيًّا بالشأن العامّ ومنخرطًا في مشروع إعادة بناء سورية الجديدة.
تُبرز مشاركة سوريات ''الداخل وبلدان المنفى" في النقاش العامّ، من خلال تقديم الشهادات وكتابة التدوينات ونشر الفيديوهات في مواقع التواصل الاجتماعية والإدلاء بالتصريحات في مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية... مدى قدرتهنّ على تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومختلف الخطابات وجرأتهنّ على إبداء مواقفهنّ وتقييم أداء المسؤولين في الحكومة والتعبير عن مخاوفهن أو استيائهنّ أو غضبهنّ... كما أنّ حضور أغلب السوريات في الميديا وعلى أرض الميدان يقيم الدليل على فاعليتهنّ واستقلاليتهنّ وتصميمهن على الاضطلاع بأدوار متنوّعة.
ولذا لم تتخلّف السوريات في المنفى عن العودة لمعاينة الأوضاع والمساهمة في تعزيز مسار بناء الثقة وبثّ التوعية. ولم تقتصر مشاركة النساء على اختلاف انتماءاتهنّ ومرجعياتهنّ ومعارفهنّ، على تحليل الأخبار والخطابات السياسية، وعلى رأسها خطابات الرئيس أحمد الشرع لفضح التناقضات الداخلية والأيديولوجيات المتحكّمة فيها، وشرح بعض التصرّفات والقرارات فقط، بل وجدنا إصرارًا على إحياء ذاكرة التعايش والتصدّي لخطابات التعصّب، وحرصًا على تأسيس المبادرات الإيجابية لمواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والتحديات، وممارسة للنقد. وثمّة دعوات للإفادة من خبرات أهل القانون والناشطين/ات الحقوقيين في صناعة الدستور الجديد وهناك تنظيم لحملات الإغاثة والتبرّع وغيرها من المبادرات المندرجة في إطار العمل المدنيّ، فضلًا عن نشاط نسويّ يرصد قرارات الدولة وتحرّكات مختلف الفاعلين ويسائلهم ويكشف عن التعنّت الذكوري المتقاطع مع الأيديولوجيا والسنّ والطبقة والطائفية والمذهبية... وهو تعنّت جعل المسؤولين الجدد لا يقرّون بعجزهم عن مواجهة التحديات ولا بحاجاتهم إلى خبرات الآخرين ولا يعترف بكفاءة النساء وضرورة الإفادة من تصوّراتهنّ وخبراتهنّ.
حضور أغلب السوريات في الميديا وعلى أرض الميدان يقيم الدليل على فاعليتهنّ واستقلاليتهنّ وتصميمهن على الاضطلاع بأدوار متنوّعة
يثبت هذا الحضور النسائيّ النوعيّ والديناميكيّ شدّة وعي السوريّات بمسؤولياتهنّ تجاه الوطن، وإيمانهنّ بضرورة استمرار الفعل السياسيّ وتنمية الرصيد النضاليّ واقتناعهن بأهميّة تعدّد الأصوات وإقرارهنّ باختلاف التجارب والخبرات وتنوّع وجهات النظر. ولكنّ الفجوة بين فاعلية النساء وبين مرئيتهنّ في مجال التدبير السياسيّ وصنع القرار تلفت الانتباه، ذلك أنّ صنّاع القرار لم يكترثوا لهذا الأمر وليست لهم إرادة سياسية لتشريك النساء في إدارة المرحلة مثلهم مثل سياسيّين آخرين في المنطقة (من أهل اليمين وأهل اليسار).
لا يهتّم صنّاع القرار بآراء النساء وتصوّراتهنّ للفعل السياسيّ ولا يقرّ هؤلاء بجدوى استشارتهنّ حول استراتيجيات مرحلة البناء وقواعده الدستورية ولا يصغي أغلبهم لمطالبهنّ السياسية. فمتى كان التعويل على ما تنتجه النساء من معرفة سياسية وتاريخية تثبت خبراتهنّ وتجاربهنّ؟ إنّ السياسة عالم ذكوريّ بامتياز، وما على النساء إلا البقاء على الهامش.
النساء لسن وافدات إلى عالم السياسية، بل إنّهن سياسيّات ومنتجات لمعرفة سياسيّة ذات قيمة
لا يولي أغلبهم اهتمامًا بفهم النساء للسياسة وتعريفهنّ لها، ولا يبدي أكثرهم فضولًا لمعرفة كيف تُقارب النساء الشأن العامّ؟ وكيف يعبّرن عن مطالبهنّ وحقوقهنّ السياسية؟ وكيف يحدّدن شكل النظام السياسيّ المرغوب فيه؟ وكيف يفهمن علاقتهنّ بالدولة؟
وانطلاقًا من هذا الواقع السياسيّ-الاجتماعيّ الذي يستنقص من شأن النساء ولا يعترف بمواطنيتهن التامة وتهيمن عليه مجموعة من التمثلات الاجتماعية والدينية وتحكمه رهانات السلطة تستمرّ فاعلية السوريات وضغطهنّ المتواصل من أجل تشريك الكفاءات النسائية والدفاع عن حقوقهنّ في أن تحترم أفكارهنّ ويكنّ في مواقع صنع القرار.
وتقودنا هذه الفاعلية النسائية التي أربكت سردية المرأة ضحية الصراعات والحروب، إلى الوعي بضرورة أرشفة أنشطة السوريات المختلفة وإنتاجهنّ خلال هذه المرحلة التاريخية المفصلية والعمل على إرساء مشروع التاريخ الشفويّ للسوريات تقديرًا لجهودهنّ وتثمينًا لوجهات نظرهنّ، فالنساء لسن وافدات إلى عالم السياسية، بل إنّهن سياسيّات ومنتجات لمعرفة سياسيّة ذات قيمة ومدبّرات للسلطة وشريكات في إدارة المرحلة وبناء الوطن.