السبت 29 يناير 2011

السبت 29 يناير 2011

01 مارس 2021
+ الخط -

"الشعب ركب يا باشا"، ربما تكون الكلمة الأكثر تعبيراً عما أسفر عنه يوم الغضب، 28 يناير/كانون الثاني 2011، في برّ مصر، وبنهاية اليوم كانت محاولات النظام المختلفة لاستعادة أي قدر من السيطرة على الأوضاع، سواء بفرض حظر التجول أو نزول الجيش أو حتى إشاعة حالة من الفوضى والانفلات والنهب والترويع، قد باءت جميعها بالفشل. في المساء طالبت هيلاري كلينتون الحكومة المصرية بالإسراع في الخطوات الإصلاحية وإعادة الاتصالات، وقبيل منتصف الليل ألقى مبارك خطابه الأول عن مخطط للفوضى وزعزعة الاستقرار، وأشار مرارا لـ"الحرائق والنهب"، وأنه لن يسمح للخوف أن يسيطر على أغلبية الشعب. كان كلامه يوحي بمن يقف وراء تلك الأفعال التي شهدت في مواقف عدة تصدي المتظاهرين لها! وفي نهاية خطابه قرر مبارك إقالة الحكومة.

غير أن شوارع وميادين مصر لم تهدأ حتى صباح السبت، وظلت مجموعات من المتظاهرين تكافح عنف الشرطة، ومن تقطعت بهم السبل واضطروا للعودة لبيوتهم بالليل، ما إن انبجس ضوء الصبح حتى تداعوا سراعا للعودة إلى الميادين لاستكمال ما بدأ.

وبقي الموقف مرتبكاً حيال دور الجيش في المشهد، ففي حين هتف البعض (الجيش والشعب إيد واحدة)، رأيت البعض يعتلون ظهور الدبابات والمدرعات ويقفون بجوار الجنود وأنا أسمعهم (عشان لو جاله أمر بالضرب ما يقدرش وما يعرفش يضرب!!).

في الصباح، ذهبت لمنزل د. حلمي الجزار، وسألته كيف يرى الأوضاع وماذا سنفعل؟ فقال: أكيد هنكمل، لكن أنا لا أعرف شيئا بعد، وسأذهب إلى المنيل بعد قليل.

كانت جنازة الشهيد مصطفى الصاوي عاملا مهما في حشد الآلاف لميدان التحرير مرة أخرى.. فكانت أكبر من جنازة وأقوى أثراً من مظاهرة

 

ما إن عادت الاتصالات حتى تلقيت اتصالا من محمد علي، يخبرني بأن سامح البرقي نقل له خبر استشهاد أحد الإخوة من شباب العجوزة اسمه مصطفى الصاوي، واتفقنا أن نحشد لجنازته لتصبح مظاهرة تبرز سقوط شهداء برصاص الشرطة بالأمس، وتعيد إحياء الحركة بالشارع بعد حالة النهب والترويع التي ختم بها اليوم، وتمر بميدان التحرير قبل الذهاب للمقابر.

دعونا عدداً من الشباب من الحركات السياسية والإخوان، وتمكنا بعد جهد من إقناع مسؤولي الإخوان بالعجوزة والجيزة بالموافقة على ذلك، إذ كانوا يفضلونها جنازة عادية تذهب بالسيارات لمقابر السيدة عائشة. وبصعوبة تمكن عبد الرحمن هريدي من تدبير ميجافون ورتب الهتافات بالتبادل بينه وبين عبد الرحمن فارس، وكتبنا بعض اللافتات، ثم خرجت الجنازة التي احتشد الآلاف وراءها.

كانت جنازة الشهيد مصطفى الصاوي عاملا مهما في حشد الآلاف لميدان التحرير مرة أخرى.. فكانت أكبر من جنازة وأقوى أثراً من مظاهرة!

في الطريق، وقعت مشادة مع ضباط من قسم شرطة الدقي كانت ستتطور للاشتباك معهم لولا تصدي القصاص وعدد من الشباب لهم ومنع الاشتباك، وحين دخلنا التحرير استقبلت الجنازة بهتافات هادرة (يا شهيد اتهنى اتهنى واستنانا على باب الجنة.. يا شهيد نام وارتاح واحنا نكمل الكفاح.. بالروح بالدم نفديك يا وطن.. الشعب يريد إسقاط الرئيس). 

كانت آليات الجيش قد تمركزت بالفعل في مداخل الميدان من جهات مختلفة، وكانت هناك كتلة بشرية ضخمة تندفع بالجنازة، حتى أنني فشلت أنا وأحمد سيد من توجيهها للعبور من شارع طلعت حرب أو الفلكي تجنبا للمرور من شارع محمد محمود حتى لا نحتك بالشرطة هناك، لدرجة أنني حين حاولت الإمساك بالنعش أنا وأحمد لتغيير وجهته وجدتني محمولا معه ودخلت بنا الجنازة لشارع محمد محمود.

معركة وزارة الداخلية

في مدخل محمد محمود عدلت دبابات الجيش التي كانت تسد مدخل الشارع وضعها لتسمح بمرور الجنازة، في تصرف غريب! وعند تقاطع (محمد محمود - الفلكي) واجهتنا حشود أمنية كثيفة، فجريت أنا وأحمد سيد نسبق الجنازة وننادي على الضباط الذين استعدوا للضرب لنخبرهم بأنها جنازة وسنمر فقط، وحاولنا تقديم النعش للأمام حتى نثبت لهم ذلك، لكنهم باشروا بإطلاق النار علينا، ولحين تمكنا من دفع الجنازة لداخل شارع الفلكي كان قد أصيب عدد من الناس، وأظن بعضهم قد استشهد. كان الضابط يقف بمواجهتي، تفصلنا بضعة أمتار وعيني في عينه وأنا أرفع يدي تأكيدا أنني أعزل وهو يطلق من بندقيته مباشرة، ولولا لطف الله لأردتني أو على أقل تقدير لأفقدتني عيني، فقد مرت طلقة الخرطوش بجانب عيني وخدشت جانب وجهي وأصابت أخرى قدمي.

مشيت مع الجنازة حتى أخذت طريقها لمقابر السيدة عائشة، ثم عدت للميدان وعرفت أن عددا من الأصدقاء حوصروا في زاوية بالسوق المغطى في منطقة الفلكي، وأن الشرطة اجتاحت الشوارع القريبة من الوزارة تمشطها وتطلق الرصاص الحي مباشرة على كل من يتحرك؛ وتصدى لها سكان المنطقة وعدد من الشباب في معركة استمرت حتى اليوم التالي تحت عين قوات الجيش التي اكتفت بالتمركز عند مدخل الميدان على بعد أقل من 150 مترا من هذا العنف الذي خلف أكثر من 45 شهيدا، وتحدث البعض أنه كان بإشراف مباشر من حبيب العادلي، وزير الداخلية، وحسن عبد الرحمن، مدير جهاز أمن الدولة. وكان الضباط والقناصة يتمركزون فوق أسطح مباني الوزارة وحولها يطلقون الرصاص الحي على الناس.

لم يستطع أحد وقف هذه الاشتباكات التي تصاعدت وتيرتها مع كل شهيد يسقط، ما دفع الكثير من شباب منطقة وسط البلد الذين تضرروا بصورة مباشرة لمحاولة أخذ ثأرهم من الداخلية، في حين سادت الميدان حالة تخشى الانجرار لعنف واسع وتفضل البقاء في التحرير والدفاع عنه، وعدم الاشتباك خارجه.

خلال نهار السبت تمت زيادة فترة الحظر لتكون من 4 عصرا – 6 صباحا. لكن التحرير وما حوله كان خارج هذه السيطرة. وبدأت تتشكل فيه لوحة خاصة تعبر عن روح مصرية جديدة.

كانت اللجان الشعبية في هذه المرحلة من أروع ما أفرزته الثورة، وربما يأتي سياق مناسب للتفصيل في شأن اللجان الشعبية ومراحل تطورها وتنوع أدوارها ومن يشاركون فيها

 

واستغرقنا الكثير من الوقت في التفكير في كيفية تنظيم الوضع بالميدان وتعزيز الاعتصام والتواصل بين المعتصمين.. فقام أحد أصدقائنا من وسط البلد بإحضار صوتيات كانت بمكتب جمال حنفي، عضو مجلس الشعب السابق، وتم تركيبها أمام مطعم كنتاكي لتكون أول إذاعة بالميدان.

الانفلات الأمني

مع الوقت تزايدت الروايات التي تصلنا عن حجم الانفلات الأمني الذي يحدث في أنحاء مصر. تلقى كثير من أهل الميدان اتصالات من بيوتهم مليئة بالفزع، فاتفقنا على الاجتماع سريعا لمناقشة الأمر بوصفه حالة عامة وليست موقفا شخصيا، وبدا لنا خلال وقت قصير أنه ضمن خطة ممنهجة للنظام تهدف لنشر الذعر بين المواطنين تدفع المتظاهرين للعودة لحماية بيوتهم وأهليهم، حيث رصدنا أنه إضافة لهروب وتهريب السجناء، واقتحام وفتح أبواب السجون وإطلاق أعداد من المجرمين على المناطق السكنية والمحال للسرقة والترويع، كانت هناك حملة إعلامية مصطنعة لنشر هذه الأخبار بل وترويج الشائعات عن أحداث وهمية لاشتباكات لم تحدث وسرقات لم تقع وإطلاق النار في الهواء.

كما نشر خبر عن اغتيال عدد من قيادات الإخوان، منهم د. عصام العريان، في سجن أبو زعبل، ما سبب لنا صدمة كبيرة وخوفا من تكرار ما حدث في بعض سجون تونس من تصفية لمعتقلين سياسيين، فاتصلت بالدكتور حلمي الجزار، الذي طمأنني أن من اعتقلوا من قيادات الجماعة ليسوا في أبو زعبل.

سببت هذه الحالة هلعا حقيقيا في الميدان، حتى أن بعض أصدقائنا اقترح العودة سريعا للبيوت، لكن أحمد محمد و(ع.خ)، قالوا إن أفضل وآمن وسيلة لنا ولبيوتنا هي الحفاظ على الحشد في الميدان، وقمنا بعصف ذهني للوصول لحلول تساعد من في البيوت ولا تضطرنا لمغادرة الميدان.

اتفقنا على:

- كتابة عدد من الإجراءات والنصائح للحماية الأهلية للمنازل والأحياء، منها: (تجمع سكان العمارة الواحدة معا قدر المستطاع – وضع حجارة وزجاجات فوق الأسطح وخلف الأبواب لاستخدامها بشكل سريع حال الطوارئ – وجود مجموعة مركزية في كل حي مسؤولة عن تأمينه وتعميم أرقام هواتف كخطوط ساخنة للاتصال بها – الحماية من الغرباء...).

- الأحياء الشعبية القديمة يصعب أن تكون هدفا للانفلات الأمني، وأهلها قادرون على حماية أنفسهم لمعرفتهم ببعض وصعوبة اختراقهم من قبل الغرباء، وستكمن المشكلة الأكبر في المدن الجديدة والأطراف، لذلك يمكن تخصيص أرقام هواتف لتكون خطا ساخنا في حال حدوث مشكلة.

- قمنا بترتيب مداخلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة، أعلن فيها إسلام لطفي عن هذه النصائح والإجراءات، وأعلن عن أرقام الخط الساخن للجان الشعبية.

تجولت أنا وعبد الرحمن هريدي وعبد الكريم هريدي في عدد من الأحياء، ومررنا بعدد من اللجان الشعبية، من العجوزة إلى ميت عقبة ثم الزمالك وصولا إلى بولاق أبو العلا والسبتية، وهناك توقفنا لشراء ما يمكن أكله. وفي اللجنة الشعبية تطوع أحد أهل المنطقة لمرافقتنا، وساعدنا في شراء ما توافر في المخبز ومحال البقالة من طعام، ملأنا به السيارة وعدنا للميدان فوزعناه على من تيسر من المعتصمين.

كانت اللجان الشعبية في هذه المرحلة من أروع ما أفرزته الثورة، وربما يأتي سياق مناسب للتفصيل في شأن اللجان الشعبية ومراحل تطورها وتنوع أدوارها ومن يشاركون فيها، لكن يومها أبهرني ما رأيته من تفاعل الناس الذين كانوا بالكاد يعرفون بعضهم سابقا، فقلت لرفاقي: لعنة الله على مبارك، كان يقتل أجمل ما في المصريين!

دلالات