الذكاء الاصطناعي وسؤال الهيمنة
في خضم التحوّل الرقمي الجارف الذي تعيشه البشرية اليوم، بات الذكاء الاصطناعي أكثر من أداة تقنية أو قفزة علمية. إنّه في الحقيقة أداة تعيد تشكيل علاقات الإنسان بالمعلومة إعادةً جذرية، وبالزمن وبالذات، كذلك. غير أنّ هذا التحوّل لا يخلو من تموضعات أيديولوجية وموازين قوّة خفيّة تعيد إنتاج منطق "المركز والهامش"، لا في خرائط الجغرافيا وحسب، بل أيضًا في خرائط المعرفة والتصوّرات.
إنّ التحيّز في الذكاء الاصطناعي ليس خللًا عارضًا في الخوارزميات؛ وبالتالي، يمكن إصلاحه ببعض التعديلات التقنية أو بتحسين جودة البيانات، مثلًا. بل هو (في جوهره) تعبير عن رؤية ما محدّدة للعالم، تنطلق من موقع ثقافي واقتصادي معيّنينِ، ثم تعمّم ذاتها على أنها "المعيار"، وتتعامل مع ما عداه على أنه فرع أو هامش أو استثناء (أو فراغ، في كثير من الأحيان). فحين تُبنى النماذج على بيانات متمركزة حول العالم الأنكلوساكسوني، وتدرّب خوارزميات اللغة على أنماط تعبيرية منقولة من السياقات الغربية، فإنّ ذلك لا يعني تهميش الهُويّات الأخرى وحسب، بل يضمر اختزالها وتشويهها، أحيانًا كثيرة.
تتجلّى هذه الإشكالية بوضوح في ما يمكن تسميته بـ"تحيّز التمثيل اللغوي". فاللغة ليست مجرّد قناة لنقل الأفكار، بل هي حاملة للثقافة، ومُشكّلة للتصوّرات، ومؤطّرة للفهم. حين تُدرَّب نماذج الذكاء الاصطناعي على مدوّنات لُغوية مُشبعة برؤية استعمارية أو نمطية عن الشرق، فإنّ المفاهيم المرتبطة بالعالم العربي والإسلامي (كالجهاد، والشريعة، والقبيلة، والحجاب، والمرأة) تتحوّل إلى مؤشّرات سلبية داخل الخوارزمية، وتربط آليًا بالعنف أو التخلف أو الغرابة. لا يقف الأمر عند ذلك، بل تُبنى "أنطولوجيا اللغة" في هذه النماذج على بنى دلالية لا تمثّل النسق المعرفي العربي، فتصبح الكلمات العربية مجرّد مقابلات ترجمية لمعان مقرّرة سلفًا في النموذج الإنكليزي. وهذا نوع من "الاستعمار المعجمي"، أكثر خطرًا من الاستعمار العسكري.
ليس المطلوب ذكاءً اصطناعياً "عربياً" يكرّر النموذج الغربي بملامح محلية، بل ذكاءً معرفياً تحررياً يفكّك منطق السيطرة، ويستعيد مركزية الإنسان
وفي الواقع، لا نعاني انعدام التمثيل العربي في الذكاء الاصطناعي وحسب، بل نواجه (أبعد من ذلك) أيضًا حضورًا مشوّهًا؛ حين تكون الصورة النمطية هي البديل الوحيد عن الغياب. فبدل أن يُنظر إلى الذات العربية بوصفها كينونةً لغويةً حضاريةً غنيةً بالتركيب والتنوّع، تُختزل في مشاهد العنف السياسي أو التديّن المفرغ من البعد الإنساني أو التقاليد المتجمّدة. وهذه الرؤية لا تنتج عن تحيّز في المدخلات وحدها، بل عن تحيّز في البِنية العميقة للنظام نفسه: في كيف يفهم الإنسان، وكيف يقسم العالم، وما الذي يستحق أن يتعلّم وما الذي يُهمل؟
من هنا، فإنّ أيّ مشروع عربي للتعامل مع الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يكتفي بمطالبات "الإدماج التمثيلي"، أو "أخلاقيات البيانات"، فهذه مسكنات مؤقّتة. المطلوب هو تفكيك بنيات القوّة داخل هذه المنظومات، وطرح رؤية مغايرة للمعرفة واللغة والتقنية. فهل نريد أن نبني نماذج لغوية عربية تترجم اللغة الغربية إلى نسقنا، أم نريد أن نبني نماذج تنطلق من بنية التفكير العربي ذاته، من بلاغته، وتداخل دلالاته، وشعريته، وبنيته المقامية التي لا تفصل بين القول والسياق؟
ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى جهد مؤسسي عميق يدمج بين اللسانيين، والمفكرين، وخبراء الذكاء الاصطناعي، لا ليصنعوا أدوات موازية تسدّ الفراغ، بل ليطرحوا تصوّرًا بديلًا للذكاء. ذكاء لا يقيس الإنسان بكفاءة إنتاجه أو انطباقه على معيار غربي معين، بل ينظر إليه من زاوية "الكرامة الوجودية"، ويرى اللغة لا مجرّد تعليمات قابلة للمعالجة، بل حقلًا روحيًا، ثقافيًا، وتاريخيًا تتداخل فيه الذات بالزمن والجماعة.
فليس المطلوب إذن، ذكاءً اصطناعيًا "عربيًا" يكرّر النموذج الغربي بملامح محلية، بل ذكاءً معرفيًا تحرّريًا يفكّك منطق السيطرة، ويستعيد مركزية الإنسان ككائن لغوي، شعوري، غير قابل للاختزال في رقم أو نمط. فالذكاء الحقيقي لا يعني قدرة الخوارزمية على التعلّم، بل يعني قدرتنا نحن على مساءلة ما تتعلّمه هذه الخوارزميات، ولماذا، ولمن؟