الدين بين يقظة السؤال واستعادة المعنى
لم يكن الدين يومًا ميراثًا يسلّم به من دون وعي، ولا طقسًا يمارسه المرء دون تفكّر ولا جهد عقلي أو وجداني، وتفاعل مع الكون ومحيطه؛ فالدين في جوهره تكليف بقراءة ما يجري من قوانين وفقه للوصول إلى استكناه ماهية سرّ الوجود وأسبابه، من خلال الفهم والاسترشاد بكافة الممكنات لتجاوز الحوائل المُعيقة عن التأمّل والبحث عن يقينٍ يتجاوز حدود التقليد المتوارث، بسبب أنّ الكثير مما ورثناه من أنماط التديّن يحتاج منّا إلى عقلنته، وإلى بناء أسسه على أرض اليقين، حتى لا يكون مجرّد صدى لعاطفة جيّاشة، ترسّخت بفعل الحفظ والتلقين. وعليه، لنتجاوز حدود التلقين ونعيد طرح الأسئلة الكبرى يجب النظر مليًا في نظام الأدوار، والأهداف، وطريقة استيعاب المتغيّرات الحاضرة ليصبح للدين مساحة وعي تُنير العالم ولا تحصره.
إنّ الإسهام في إصلاح معضلات العصر الحديث، والسعي وراء ذلك لا ينبغي فيه ابتداء تجاوز الإقرار بوجود الاختلاف في الرؤى والتصوّرات، ولكنها لحظة تأمّل عميقة، لحظة وعي تشعل شعلة التجديد وتومض في الإنسان قيمًا حاضرة في سجلات التاريخ لا خارجه، أكسبتها التجربة أهمية وضرورة قصوى لبناء المعنى في ذات الإنسان.
فلا شك أنّ لحظات الحداثة اليوم لم تعد خيارًا، وإنما هي تراكم تاريخي لوعي بشري جد معقد، ودعوة للاشتباك مع العالم بأدواته المعاصرة، دون الإفراط في القيم الإنسانية الأصيلة التي يمكن اعتبارها مرآة للتاريخ، من خلال إعادة النظر في موروثنا، وقراءته بعين ناقدة، ليتم فهمه في كليّته من دون النظر في جزئياته فحسب، ولنسبر أعماقه وليس رفضه، إنما لنخلق منه جسرًا يربط الماضي بالحاضر، ويأخذنا إلى المستقبل بعيدًا عن العيش على أطلال الأجداد، أو يتم التغنّي به في المناسبات، لأنّ العيش على أطلال الأجداد يعني الجمود في لحظةٍ من الزمن، حيث تصبح الإنجازات الماضية قيدًا وعائقًا على التطوّر، بدلاً من أن تكون دافعًا له محفّزا إلى الأمام، فالروح الحقيقية للماضي لم تكن في ما بنوه فقط، بل في قدرتهم على الإبداع، وتجاوز التحديات، وعلى تسخيرهم لأدوات زمانهم، وصناعة مجدهم، وبالتالي علينا أن نستلهم منهم شجاعة الابتكار، وليس لنحاصر أنفسنا في حدود ما أنجزوه، لأنّ الوفاء الحقيقي للتراث، هو استكمال مسيرته وليس التوقف عند نهايته.
كم هو مؤلم رؤية الكثير من النخب تستجدي حلولها من عقولٍ باتت تحت التراب، بينما العالم يسير بخطى واثقة نحو أفق جديد
فكم هو مؤلم رؤية الكثير من النخب تستجدي حلولها من عقولٍ باتت تحت التراب، بينما العالم يسير بخطى واثقة نحو أفق جديد، لذلك فالحاجة ماسة إلى إحياء عبادات منسية كثيرة، لعل من أهمها؛ الوعي بمجريات الأحداث، وعقد تصالح حقيقي مع ما ران من أفكار على العقول والقلوب، وممارسة عملية الفهم والتفكير برؤية تجديدية لأنماط التدين، فلا يظلّ حبيسًا بين دفتي الماضي، بل يتحوّل إلى قوّة خلاقة تعيد الجهود إلى الحياة المعاصرة بأيد واعية وأرواح مضيئة.
وخلاصة الأمر أننا مدعوون في عمق أنفسنا، للسؤال وإعادة النظر في الفصل القائم بين أساطين الماضي ومعطيات الحاضر، وإعادة ترتيب المسألة الدينية بما يوافق أصل وجودها، وهذا السؤال ليس هروبًا من الحياة ولكنه سعي لفهم قوانينها، لتصبح علاقتنا بالدين علاقة حيّة نابضة، وليكون العقل رفيق القلب في رحلة البناء والاستئناف.