الدفع في موسم قَصّ الكلاب

الدفع في موسم قَصّ الكلاب

22 مارس 2022
+ الخط -

(تشريق وتغريب 12)

وجهتُ إلى صديقي، معلم المدرسة أبو أحمد، المقيم في إدلب، سؤالاً محرجاً. قلت له: من أين تعيشون الآن، بعدما أغلق الرجل الغريب الذي يحكم إدلب، أبو محمد الجولاني، المعابرَ مع النظام، وما عاد بإمكانكم أن تذهبوا إلى مدينة حماه لقبض رواتبكم؟

كان رده عجيباً جداً، قال لي إذا أنتَ انقطعتَ عن التواصل مع أي إنسان يعيش في الداخل، بضع سنوات، ثم عدتَ إليه، ووجدته على قيد الحياة، فهذا يعني أنه يتدبر أمره في العيش بطريقة ما.

ألححت عليه، قلت:

- ولكن هناك شيئاً اسمُه اختصاص. أنت، مثلاً، معلم مدرسة، بأيش ممكن

ضحك وقال لي: أشتغل بـ التبّ، وأحياناً بقَصّ الكلاب. 

كان كلامه مليئاً بالتهكم الإدلبي الذي يستطيع أي إدلبيّ مثلي أن يلتقطه بسهولة. ولكن، بالنسبة للقراء، الأمر يحتاج إلى شرح، وسأشرحه:  

- دعونا نبدأ من (التبّ)، وبعض الناس يسمونه (التُوب). يا سيدي، هو شجر من فصيلة التين، يعطي ثماراً شبيهة بالتين، ولكنها ذَكَر، لا تؤكل، تجتمع حول فوهتها كائناتٌ حشرية مثل البعوض أو البرغش، تنتقل إلى أشجار التين الأخرى، فتلقّحُها، وتصبح شجرات التين "الأنثى" بعد ذلك مثمرة، وتنضج، وتصبح لذيذة جداً. والتبّ يثمر في أول الصيف، قبل نضج التين العادي بشهر تقريباً، ولذلك يقطفه الفلاحون، ويستعملون الإبر والخيطان ليصنعوا منه قلائد، ويعلقونها بين أغصان أشجار التين المؤنثة. والفلاحون لا يكترثون لهذا العمل، ويعتبرونه تافهاً، ولذلك يتهكم الفلاح، عندما يُسأل عن شيء لا يستطيع تحقيقه، فيذكر لمحدثه (التب).

تسأله، مثلاً: متى ستشتري فيلا فخمة تسكن فيها مع أسرتك؟

فيضحك ويقول لك: إن شاء الله في موسم التب.

وأحياناً يقول لك: في موسم قَصّ الكلاب!

قال أبو أحمد: مع احترامي للبائع الذي يذهب إلى السجن ستة أشهر لأجل سعر علبة الكبريت. إنه رجل غشيم

وهذا المصطلح الأخير يأتي من أن مُرَبِّي الغنم يقصون أغنامَهم، في موسم معين، ويبيعون صوفها بمبالغ مالية جيدة، فإذا كان لك بذمته مالاً، وطالبته به، يقول لك:

- سأدفع لك إن شاء الله في موسم قَصّ الغنم.

وأما الرجل المفلس فيقول متهكماً: أدفع لك في موسم قص الكلاب!  

وهذا عمل تافه لأن الكلاب لا تُقَصّ، وإذا قُصَّتْ فإن صوفها لا يباع، ولا ينفع لشيء.  

- ألم أقل لك إن الحديث معك ممتع يا أبو مرداس؟

- شكراً. ولكن الفضل يعود إليك، لأنك، عندما ذكرتَ لي التبّ وقص الكلاب، أحلتني إلى اللغة التي يستخدمُها السوريون بشكل عام، ونحن أبناء محافظة إدلب بشكل خاص، وفيها الكثير من البلاغة. مصدر البلاغة، برأيي، يأتي من الكناية، أو الإحالة إلى شيء معروف على نطاق محلي مثل موسم التب، وموسم قص الكلاب. وهناك، مثلاً، فكرة "العباية".

- العباية؟

- نعم. وهذه تعود إلى أن رجال الشرطة، في العصور القديمة، كانوا يرتدون نوعاً من العباءات، وعندما يدخلون السوق يباشرون تواً بظلم الناس، وإجبارهم على دفع الرشاوى.. وأما رد الفعل على ذلك، فإن الناس صاروا يراقبونهم من بعيد، وبمجرد ما يلمحهم أحدٌ من أهل السوق قادمين، يصيح "عباية"، فيسارع الآخرون إلى إغلاق دكاكينهم والهرب خارج السوق. وقد أخبرني أحد الأصدقاء أن أصحاب الدكاكين في مدينة إدلب كانوا، عندما يرون دورية التموين قادمة، يصيحون "صَرَّافة يا شباب". سألته عن معنى هذه العبارة، فقال لي: كان مدير التموين، في إحدى الفترات، من النوع المرتشي، النهم، ومع ذلك تَمَكَّنَ من نشر إشاعة في البلد مفادُها أنه شريف، ولكي يثبت لجميع الناس صحة هذه الإشاعة، لم يكن يقبل أن يشتري أي شيء من السوق، حتى ولو كان باقة بقدونس، دون أن يدفع ثمنه.. وكان يتقصد ألا يحمل في جيبه قطعاً نقدية صغيرة، فإذا اشترى كيلو بندورة ثمنُه عشر ليرات، يقوم أمام الناس بحركات استعراضية، ويُخرج من جيبه ورقة من فئة الخمسمئة ليرة، ويعطيها لبائع البندورة. فماذا يجب على البائع أن يفعل -في هذه الحالة- لكي يتقي شر مدير التموين؟ يجب عليه أن يعيد إليه قطعاً نقدية تساوي مبلغ الـ500 ليرة، كاملة.. مدير التموين، من شدة خبثه، يضع المبلغ المعاد في جيب خاص، وبعدما يغادر السوق يعد الأوراق النقدية، فإذا وجدها تنقص عن الـ500 ليرة، أي أن يكون البائع تقاضى ثمن كيلو البندورة، يغضب عليه غضباً حارقاً، وفي زيارته التالية للسوق يحرر باسمه مخالفة توصله سالماً غانماً إلى محكمة الأمن الاقتصادية. وقد تطور الأمر بعد ذلك، وصار مدير التموين إذا اشترى كيلو من الفجل، بثلاث ليرات، يدفع للبائع قطعة الـ500 ليرة، والبائع يعيد له التتمة مبلغ 600 ليرة، وهكذا يكون قد رشاه بـ100 ليرة، دون أن يدري بالأمر أحد. وعملية إعادة التتمة كنا نسميها (صَرَّافة).. ولذلك كنا نصيح "صرافة يا شباب".

قال أبو أحمد:

- أخي أبو مرداس. أنت عشت في تركيا بضع سنوات، وانتقلتَ إلى ألمانيا، ولا شك في أنك زرت دولاً كثيرة، لذا سأسألك عن كيفية عمل "محاكم الأمن الاقتصادية" في تلك الدول!

ضحكت وقلت له: مؤكد أنك تمزح. وهل توجد دولة في العالم لديها محكمة أمن اقتصادية غير سورية؟ يا سيدي سورية تتفرد بأشياء كثيرة، منها أن يختص فرعُ الأمن السياسي بإعطاء موافقة على ختان الأطفال، وسكب المفاتيح، وبيع التبّ ضمن قلائد، وقَصّ الكلاب الجعارية.. وأظن أن تاريخ العالم في الماضي والحاضر، وحتى في المستقبل، لم (ولن) يشهد دولة ترسل صاحبَ دكان إلى السجن ستة أشهر لأن قصاصة الورق التي تدل على أن سعر علبة السردين خمس ليرات مائلة، أو أنها امَّحَتْ مع مرور الزمن.

قال أبو أحمد: مع احترامي للبائع الذي يذهب إلى السجن ستة أشهر لأجل سعر علبة الكبريت. إنه رجل غشيم.

- لماذا؟

- سأخبرك، يا أبو مرداس، بأمر أظن أنك تعرفه.. هو أن الأحكام التي تصدرها محكمة الأمن الاقتصادية عبارة عن أحكام عُرفية، بمعنى أنها أحكام استثنائية غير موجودة في قانون العقوبات السوري المعمول به منذ أيام الاستعمار الفرنسي.

- ماذا يعني هذا؟

- سأشرح لك هذا بالتفصيل.. ولكن عذراً.. باقي ثلاث دقائق لانقطاع الكهرباء..

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...