الحمد لله ع السلامة
ورأيت أنّنا نقول لكلِّ من صادفناه في شوارع بيروت، ولو كان غريباً تماماً: الحمد لله ع السلامة. فقد أصبحت "الحمد لله ع السلامة" تحيّة الصباح بدلًا من "صباح الخير" الباهتة. هذا الصباح الذي لم نكن متيقنين من أنّنا سنبلغه، نحن وإياهم، في الشهرين الماضيين، وفوقهما أسبوع إضافي قبل وقف إطلاق النار، أو ما يُقال إنه كذلك.
وتأمّلت قليلاً وأنا أعيدها وأكرّرها بارتياح لكلِّ من تُصادف عيناي عينيه في الشارع، فيبتسم، مستخلصةً بزخم التفاؤل الصباحي: ها نحن اجتمعنا أخيراً على غير عادتنا. فقد وحّدتنا هذه "الحمد لله ع السلامة"، كما لم تكن تفعل صباح الخير وأخواتها غير الأشقاء. فبعضنا كان يصرّ على "البونجور" وآخرون على "سعيدة" وغيرهم على "هاي" حسب ميولهم الثقافية. وقلت لنفسي لا شك أنّ الراحة بعد الفزع والنجاة بعد الخطر تعيدان الناس إلى قواعدهم، اللغوية على الأقل، سالمين. فأنت لا ترتاح بلغةٍ أجنبية ولو كنت تتقنها، لا بل إنّك تعبّر عن تلك الراحة بعبارات ميكانيكية محلية من نوع "الحمد لله ع السلامة"، ولو لم تكن مؤمناً أصلاً. واستطردت بتفاؤلي قائلة لنفسي: خطوة أولى مباركة نحو وحدة حال بين اللبنانيين، قد توصّف بالوطنية مع بعض الجهد فيُبنى عليها، ولو لغوياً، فلكلّ شيءٍ بداية.
ورأيت أني لا أخجل من ترداد العبارة للمارة، ومن هذه الإلفة غير المألوفة بيني وبينهم، خصوصاً تلك التي أبديها لأولئك المواطنين الذين كانوا ينامون هنا، على الأرصفة المجاورة لبيتي طوال الشهرين والأسبوع الإضافي من القصف المتواصل، والذين بدأوا بضبّ أغراضهم فرحين.
أصبحت "الحمد لله ع السلامة" تحيّة الصباح بدلًا من "صباح الخير" الباهتة
كنت أراهم، في ذهابي وإيابي، يعالجون إقامتهم الطارئة في هذا البرد ببعض وسائل التدفئة المرتجلة، كشرب الشاي الساخن من إبريق يغلي على غازٍ متنقل، صُمّم بالأصل للباربكيو، مستمعين إلى راديوهات الهواتف وعواجلها مقطبين. كنت أنظر إليهم أثناء مروري اليومي بهم، فأجدهم ينظرون بعيون مستطلعة عيونَ المارة، كمن يتوقّع انزعاجاً أو تأفّفاً لأسباب أيديولوجية أو عنصرية متفرّقة، فأفهم نظرتهم المُتسائلة، وأبتسم كنوعٍ من الردّ، مردفةً ابتسامتي، لمزيد من التطمين، بسؤال إن كانوا بحاجة لشيءٍ أستطيعه، فيردّ عليّ بعضهم أنّ ابتسامتي وتحيّة الصباح تكفيان.
ما إن أُعلن وقف إطلاق النار، الذي تبيّن أنّه من طرف واحد، حتى تبدّل انتظارهم المُحرج بلهفة للعودة. ووجدت أنّ حماسهم ذاك كما لو كانوا يظنون أنهم يعودون إلى ما كان قائماً في الماضي، إن كان مساكن أو أحوالاً، مع أنّهم شاهدوا بأم العين، وأبيها، أنّ الوضع غير الوضع.
وشعرت بالحزن لمغادرتهم مع أني كنت فرحة لهم. وشعرت أنهم لم يعودوا غرباء ولو أني لا أعرف أحدًا منهم. فكلنا ناجون أو، على الأصح، في غرفة انتظار النجاة إلى أن تنتهي مهلة الستين يوماً التي اتُفِق على انتظارها لتنفيذ وقف إطلاق النار، والتي تبيّن أنها مخصّصة لإرساء معادلات من هو الغالب ومن هو المغلوب على طرفي الحدود بغضّ النظر عن وقائع الميدان.
إسرائيل لم تتوقف عن قصف البيوت وتفجير القرى وملاحقة الناس وقصفهم بالمسيرات
ورأيت أنّ إسرائيل لم تتوقف عن قصف البيوت وتفجير القرى وملاحقة الناس وقصفهم بالمسيرات. لا بل إنها كانت تقلّل عقلها حتى على الدراجات النارية، فتقصفها بصاروخ لا شك أنّ ثمنه يعادل مائة دراجة على الأقل. وقلت في نفسي: "تتكارم من غير كيسها"، ثم قلت: من أنفق من مال غيره ما ظلم. ورأيت أنّها وسّعت بنك أهدافها المطاط، حتى باتت تستهدف العسكر أيضاً، مع أنّه لم يشتهر بإطلاق النار عليها. وقلت لا شك تخيفهم وقائياً قبل المرحلة المقبلة لانتشار الجيش.
ورأيت أني لا أرغب بزيارة فرجة على الدمار في الضاحية المنكوبة التي هرع إليها الجميع ونقلتها الشاشات، ولا الجنوب الذي احتلّ العدو أجزاء منه بعد وقف الأعمال العدائية كما يُقال. ورأيت أنّ العدو يفهم الهدنة كما يريد طالما أنّ أحدا لا يدله على الصواب أو يجبره على ذلك. وسألت نفسي: ومن يردعه طالما أنّه لا أحد يريد أن يردعه ما عدانا؟
ووجدت أنّي أشيح بوجهي عن الشاشات حتى، فلا أريد أن أُجبر مرّةً أخرى أن أختزن صورًا إضافيّة للمباني القتيلة ولأشلاء الناس أو ذكرياتهم من تحت الأنقاض.
ووجدتني أخاطب نفسي بصوت عال في المنزل كمن يبرّر لأشخاص غير مرئيين: تكفيني أربعة عشر شهرا من مشاهدة القصف المتواصل بين غزّة ولبنان، والعيش تحت انهمار الصواريخ وإنذارات الإخلاء وطنين أصوات المُسيّرات. ولم أنكر أنّي بحاجة لاستراحة طويلة لمداواة روحي التي يبدو أنّي لن أستطيع انتشالها بسهولة من تحت أنقاض هذه الحرب التي خلّفت سلاماً مبهماً أخطر منها، إن كان في النفوس أو في البلاد.
اقتصاد البلاد مدمّر، والنفوس مدمّرة، وتربة البلاد التي أجبرت على ابتلاع الفوسفور واليورانيوم المنضّب، مدمّرة
ورأيت بعد تمعن أنه في تلك "الحمد لله ع السلامة"، التي كنت أوزّعها يمنةً ويسرةً بتفاؤل متهوّر، تجاوزاً وقحاً لدماء أكثر من أربعة آلاف وسبعة وأربعين شهيداً لبنانياً (حتى كتابة هذه السطور) وحوالي سبعة عشر ألف جريح، كانوا ضحايا قصف إسرائيل وتفجيراتها للخريطة اللبنانية. فاستحييت، وزجرت نفسي حين نازعتني لكتابة العبارة صبيحة وقف إطلاق النار على مجموعة "واتساب" التي كنت أشارك فيها أصدقاء طوال الحرب. فالبلد، كما الضاحية والجنوب والبقاع وما تيسّر من أماكن النزوح شمالاً وجبلاً، مدمّر. واقتصاد البلاد مدمّر، والنفوس مدمّرة، وتربة البلاد التي أجبرت على ابتلاع الفوسفور واليورانيوم المنضّب مدمّرة، لا بل إنّ وقف إطلاق النار شخصياً كان مدمّراً. فعلى أيّ سلامة أحمد الله؟
وفي المساء، قرّرت أن أغادر البلاد على متن مسلسل غرامي كوري، وقلت في نفسي: الكوريون لا يشبهوننا. فعيونهم مسحوبة لفوق، وأسماؤهم غير مألوفة، ولغتهم لا تتخلّلها، لا إنكليزية ولا عربية ولا فرنسية، وعاداتهم مختلفة. وأكدت لنفسي أنّها ستكون سياحة ممتازة ومجانية لروحي المتعبة من الحروب.
لكن، وما إن استغرقت في الفرجة ووصلت القصّة إلى تطوّر حرج في الحلقة السادسة، حتى لمع عاجل كنت قد نسيت تعطيله على الحاسوب: الرئيس الكوري الجنوبي يفرض الأحكام العرفية والمعارضة تعتصم في البرلمان.