الحب.. بين الجوهر المتعالي وتحولات المعنى
الحب لغز قديم قدم الإنسان ذاته، قوة غامضة تتجلى في صور لانهائية، تتراوح بين العشق الجسدي والتوق الروحي، بين الرغبة العابرة والارتباط الأبدي. هو ذاك الشعور الذي لا يُعرَّف تعريفًا قاطعًا، لكنه يُعاش في كل لحظة، ويُعاد تأويله مع كل تجربة، وكأن جوهره يكمن في سيولته، في عدم قابليته لأن يُحصر في إطار واحد. إنه ليس مجرد إحساس فردي، بل تجربة إنسانية شاملة، تمتد عبر الزمن والثقافات، وتأخذ أشكالًا مختلفة حسب السياق الذي تنمو فيه.
عبر العصور، حاول الفلاسفة والمفكرون أن يسبروا أغوار الحب، فكان لكل رؤية نصيب من الحقيقة، ومع ذلك لم تحط أي منها بكنهه تمامًا. في عمق التجربة البشرية، ثمة شعور بأن الحب ليس مجرد رغبة عابرة، بل هو نداء داخلي، بحث مستمر عن شيء أكثر اكتمالًا، عن جوهر يتجاوز الأفراد ليحمل دلالة أعمق. فهل الحب في حقيقته تجربة أصيلة نابعة من أعماق النفس، أم أنه إسقاط لرغبات الإنسان وهواجسه على الآخر؟ وهل نحب لأن الحب حقيقة قائمة في ذاتها، أم لأننا نخشى أن نعيش دونه؟
في أحد التصورات، يبدو الحب كتجربة عقلية وروحية في آن واحد، كما ذهب إليه القدماء حين رأوا في الحب طريقًا للسمو. لم يكن العشق لديهم مجرد انجذاب بين كائنين، بل حركة متدرجة تبدأ بالحواس وتنتهي بما هو أسمى، حيث يتجرد الإنسان من ذاته ليذوب في كيان آخر، أو ربما في معنى أكثر شمولًا. إنه شبيه برحلة لا تنتهي، كأن العاشق يبحث في محبوبه عن انعكاس لحقيقة غائبة، أو عن صورة لنفسه كما يريدها أن تكون. لذلك، فإن الحب وفق هذا الفهم ليس مجرد تجربة عاطفية، بل هو وسيلة لاكتشاف الذات، وللارتقاء بما هو مادي إلى مستوى أكثر نقاءً.
في أحد التصورات، يبدو الحب كتجربة عقلية وروحية في آن واحد، كما ذهب إليه القدماء حين رأوا في الحب طريقاً للسمو
لكن الحب في وجه آخر ليس سوى وهم، خدعة يمارسها العقل على الذات كي يملأ بها فراغه. لا يرى العاشق محبوبه كما هو، بل كما يرغب أن يكون، يعيد تشكيل ملامحه، يحيطه بهالة من الكمال، فلا يعود الحب علاقة بين شخصين، بل بين الإنسان وصورته الذهنية عن الآخر. وهو بهذا أشبه بسراب يتشكل وفق الحاجة، لكنه ما إن يُمسك به حتى يتلاشى. كم من حب وُلد من وهم ثم انهار حين اصطدم بالحقيقة، حين أدرك العاشق أن ما ظنه سموًا لم يكن إلا انعكاسًا لرغبته الخاصة في الامتلاء؟ بل إن بعض الفلاسفة رأوا أن الحب ليس سوى انعكاس لرغبة الإنسان في الخلود، في أن يترك أثرًا يتجاوز زمنه المحدود. فهو ليس عن الآخر بقدر ما هو عن الذات، عن تلك الحاجة العميقة لأن نشعر بأن لحياتنا معنى، ولو من خلال وجود شخص آخر نمنحه كل عاطفتنا.
وربما لم يكن الحب في جوهره سوى تجربة روحية، توق نحو كمال لا يُدرَك إلا عبر الذوبان، ليس في شخص، بل في معنى يتجاوز حدود الفرد. الحب بهذا الشكل لا يصبح مجرد رابطة بين اثنين، بل طريقًا للخلاص، جسراً بين المحدود واللانهائي، بين المادي والمطلق. كأن الإنسان حين يحب، لا يحب الآخر بقدر ما يحب المعنى الذي يراه فيه، الفكرة التي يمثلها له، ذلك التوق العميق الذي لا يجد له اسمًا سوى الحب. ولهذا، في بعض الثقافات الروحية، يصبح الحب طريقًا للوصول إلى الحقيقة الكبرى، فهو ليس رغبة، بل حالة من الفناء في المطلق، في الجمال الكلي الذي لا يمكن إدراكه عبر الحواس وحدها.
ورغم كل هذه التأملات، يبقى الحب في العصر الحديث شيئًا مختلفًا، تجربة متغيرة تخضع لتحولات الزمن والواقع. لم يعد الحب ذلك الشعور النقي الذي كان يُرى كقدر محتوم، بل بات خيارًا، يُقبل عليه الإنسان أو ينفر منه وفق ما تمليه ظروفه ورغباته. في زمن السرعة والتكنولوجيا، صار الحب عابرًا، متبدلًا، كأنه فقد جزءًا من سموه القديم، أو كأن الإنسان لم يعد يحتاجه بالطريقة التي احتاجه بها يومًا. لقد أصبح الحب خاضعًا للمنطق الفردي، متأثرًا بفكرة الاستقلالية، فلم يعد المحب ينظر إلى محبوبه باعتباره جزءًا مكملًا له، بل كخيار قد يُستبدل متى فقد بريقه. وهذا التحول ربما جعل الحب أقل استقرارًا، وأكثر هشاشة، لكنه لم يلغ الحاجة العميقة إليه، تلك الحاجة التي لا تزال تدفع الإنسان للبحث عن شريك، ليس فقط ليشاركه الحياة، بل ليعكس له صورة ذاته كما يود أن يراها.
الحب، إذن، ليس حقيقة مطلقة ولا وهمًا خالصًا، بل تجربة متجددة، تتلون وفق من يعيشها، وتبقى رغم كل شيء، إحدى أكثر القوى غموضًا وتأثيرًا في الوجود الإنساني. إنه تداخل بين الإدراك والخيال، بين الحواس والروح، بين الحاجة إلى الآخر والرغبة في العثور على المعنى. وربما تكمن عظمة الحب في كونه لا يُعرَّف، بل يُعاش، في أنه لا يستقر عند حدود، بل يظل دائم التحول، كأن جوهره هو هذه الحركة الدائمة، هذا السعي المستمر نحو شيء لا يُمسك به، لكنه رغم ذلك، يمنح للحياة سحرها، وللإنسان معنى وجوده.