التفكيك وأدبية النص (الفلسفي)
يرى التفكيك أنّ استواء الأضداد في النصّ لا يقتصر على النصّ الأدبي، بل هو محايثٌ لكلّ نصٍّ بوصفه نصًّا. ولا فرق في ذلك، إلا ربما بالدرجة، بين النصّ الأدبي والنصّ الفلسفي، بين نصوص الأدب ونصوص النقد الأدبي. وعمومًا، النصّ الفلسفي أو النقدي ليس أكثر أو أقلّ أدبية من النصّ الشعري. ويذهب دومان إلى أنّ كلّ النقاد محكومون بشكلٍ عجيبٍ لأن يقولوا شيئًا مختلفًا عمّا أرادوا قوله، ويشدّد على أنّ الناقد لا يقول فقط ما لا يقوله العمل الذي ينقده، وإنما يقول أيضاً ما لا يقصد هو نفسه قوله. والأدب عند دومان هو قانون النص، وبلاغية اللغة تجعل الفلسفة مماثلة للأدب بمعنى ما. وبذلك جرى تفكيك ثنائية أو مثنوية الأدب والفلسفة عند دومان ودريدا، لكونهما يريان أنّ اللغة عمومًا مجازات واستعارات حيّة تتضمّن تفكّكًا بين المعنيين الحرفي والمجازي.
وعلى الرغم من تهمة "إرهاب الغموض" التي وجهها فوكو إلى (نصوص) دريدا، وتبناها جون سيرل وكثيرون غيره، أو بغضّ النظر عنها، يمكن القول إنّ نصوص أبوي التفكيك الأوروبي والأميركي، دريدا ودومان، ماتعة إلى درجةٍ استثنائيةٍ، وحدٍّ كبيرٍ. وإذا كان عبد العزيز حمودة يرى أن خطابات دريدا مشرذمة ومداعبة، في حين أن خطابات دومان محكمة وتقليدية، فإنني أرى أنّ خطابات كليهما كانت، في الوقت نفسه، مشرذمة ومحكمة، مداعبة وتقليدية، أدبية مليئة بالصور والمجازات وفكرية مليئة بالمفاهيم والمصطلحات. ويميّز دومان بين نصوصه ونصوص دريدا من خلال أنّ نصوصه تربوية تعليمية أكثر من كونها فلسفية كما هو الحال عند دريدا.
وتنتمي نصوص دريدا (ودومان) إلى تلك السلسلة من النصوص الفلسفية التي تجمع بين اللغة الأدبية واللغة المفهومية، وتفكّك التضاد بينهما: نصوص أفلاطون وروسو ونيتشه، على سبيل المثال. وليس مصادفةً أن حظيت نصوص هؤلاء الفلاسفة الثلاثة بمكانة خاصة في القراءات التفكيكية (الدريدية و/ أو الدومانية). واللقاء بين أبوي التفكيك حصل في إطار انشغال كلٍّ منهما، بمعزلٍ عن الآخر، بتقديم قراءة تفكيكية لنص روسو "محاولة في أصل اللغات". وإذا كان الإعجاب بنصوص روسو والانشغال والاهتمام به هو أحد القواسم المشتركة بين أبوي التفكيك الفلسفي والنقد أدبي، فإنّ الاختلاف حول هذه النصوص كان أحد أكبر الاختلافات بينهما. ففي حين أنّ دريدا كان يرى أن ثمة تفككًا، لا يعيه روسو، بين معنيين متضادين في نصه، وقراءتين، تقليدية وتفكيكية لهذا النصّ، كان دومان يشدّد على أن روسو "لم يكن مخدوعاً، وأنه قال ما أراد قوله"، وأن روسو اضطر إلى كتابة عكس ما يقول (أنه يقصد)، وأن ذلك ينطبق على دريدا نفسه. فاستواء الأضداد ليس خطأ أو تناقضًا يمكن لأحد قطبيه أن يلغي الطرف الآخر، بل هو جزء أساسيٌّ ومؤسسٌ للمفهوم الفلسفي (عند روسو). ووفقًا لدومان (ودريدا)، استواء الأضداد واضحٌ وقويٌّ في كلّ نصوص روسو. فنصّ "دين الفطرة" لا يمكن قراءته أو هو غير قابل للقراءة، لأنه يتضمّن ازدواج أضدادٍ يجبرنا على الاختيار ويهدم كلّ أساس للاختيار، في الوقت نفسه. وهذا هو معنى استحالة القراءة. وقد اقترح روسو العقد الاجتماعي، في نصٍّ يحمل الاسم ذاته، مع أن نصّه يتضمّن استحالة هذا العقد، أي إنه يتضمّن استحالة أو فشل أو تفكيك أو تفكّك مشروعه الخاص. وكانت "اعترافات روسو" أيضًا موضع اهتمام القراءة التفكيكية ونُظِر ونُظّر إليها، عند دومان، على أنها نصٌّ أُنموذجيٌّ للقراءة البلاغية. فهذه الاعترافات هي اعترافات، وفشلٌ في أن تكون اعترافاتٍ، في الوقت ذاته. ويمكن الاستفادة من المعنى المزدوج لكلمة اعتراف، في اللغة العربية، من حيث كونها تتضمّن مفهوم الاعتراف، بمعنى الإقرار بالأخطاء أو السلبيات، ومفهوم الاعتراف، بمعنى منح أو نيل الحب والاحترام والتقدير، للقول إنّ اعترافات روسو كانت تبحث عن نيل الاعتراف، بوصفه حبًّا واحترامًا وتقديرًا، على الرغم أنه من المفترض أنها اعترافات، بالمعنى الأول: بوحٌ وإقرارٌ بالأخطاء والخطايا، بالسلبيات، بصراحةٍ ووضوحٍ ومن دون أي محاولةٍ للتستر عليها أو الدفاع عنها أو تسويغها والتقليل من شأنها.
النصّ الفلسفي أو النقدي ليس أكثر أو أقلّ أدبية من النصّ الشعري
ونظرًا إلى أن النصوص محكومة باستواء الأضداد، فإنّ القراءة (ينبغي أن تكون) محكومة بالإكراه المزدوج double-bind. ويمكن الإشارة إلى مسألةٍ ذات بعدٍ شخصيٍّ خاصٍّ، يمسّ دريدا ودومان، على حدٍّ سواء، وبعدٍ فكريٍّ سياسيٍّ عامٍ، لشرح صيغةٍ من صيغ هذا الإكراه المزدوج في النقد التفكيكي.
في عام 1987 اكتشف/ كشف طالبٌ بلجيكي كتاباتٍ قديمةً لبول دومان تُظهر أنه كان مؤيدًا للاحتلال الألماني النازي ومتعاونًا معه، وربما "معاديًا للسامية"، أثناء الحرب العالمية الثانية، في بداية الأربعينيات. أثار ذلك الاكتشاف حينها فضيحةً أو ضجةً كبيرةً وجدالاتٍ طويلةً. فدومان لم يتحدّث مطلقًا عن تلك الكتابات وذلك التعاون/ التواطؤ مع النازية الألمانية. وقد انتظر كثيرون ردة فعل دريدا، خصوصًا، على هذا الاكتشاف، لكونه "الأب الأكبر للتفكيك" والصديق الأقرب لدومان. وقد أثارت ردة فعل دريدا امتعاض كثيرين أو انتقاداتهم، من جهةٍ، وإعجاب كثيرين آخرين وإشاداتهم، من جهةٍ أخرى. والصيغة الأبرز التي حكمت نص دريدا الطويل (30 ألف كلمة تقريبًا) تمثلت في صيغة "من جهةٍ ...، من جهةٍ أخرى ...". وقد جسّدت هذه الصيغة أطروحة التفكيك، الدريدي والدوماني، عن الإكراه المزدوج. وبهذه الصيغة حاول دريدا أن يكون موضوعيًّا ومنصفًا في خصوص جانبين أساسيين من جوانب حياة دومان وشخصيته. فمن جهةٍ، طرح دريدا كلّ التساؤلات الممكنة المتعلّقة بالظروف التي عاش فيها دومان، والضغوط التي يمكن أن يكون قد تعرّض لها آنذاك، والعوامل المختلفة التي يمكن أن تكون قد دفعته إلى ما قام به آنذاك. لكن كلّ هذه التساؤلات وغيرها لم تمنع دريدا من انتقاد أو إدانة هذا التعاون/ التواطؤ مع الاحتلال الألماني النازي. ومن جهةٍ أخرى، أبرز دريدا شخصية دومان وأفكاره وأفعاله، بعد فترة الحرب التي شهدت التعاون المذكور، وأشاد بإيجابياتها الكثيرة والكبيرة، ورأى فيها محاولةً صامتةً، من دومان، للرد على تجربته في فترة الحرب/ التعاون. خلاصة رأي دريدا هي أنه ينبغي أخذ الجهتين في الحسبان، معًا، وعدم اختزال دومان إلى إحدى الجهتين فحسب. وهذا يعني أننا أمام طرفين نقيضين يفرضان نفسيهما علينا، ولا يسمحان لنا بإقامة الجدل أو التركيب بينهما، وإصدار حكمٍ شاملٍ أحاديٍّ، في خصوصهما، سلبيًّا كان ذلك الحكم أم إيجابيًّا. هذا هو الإكراه المزدوج، بلغة التفكيك الدريدي والدوماني، وهو الإكراه المزدوج، للعمى والبصيرة، بلغة دومان، وللسلب والإيجاب، وفقًا للمفهوم العام.