التخلّص من حكم المسدّس لا تغيير هويّة حامله
استغرقني وقتا غير هيّن لأستبين الفارق بين شعوري تجاه الشرطيّ والمقاوم، إذ كانا الشخص ذاته، اضطرّه الظرف -أو اضطرّته قياداته- ليحمل السلاح ذاته الذي يواجه به العدوّ في المفارق المروريّة والميادين بمخيّمات القطاع وأحيائه، ولا ثمّة عدواً ظاهراً فيهما، حتى جاءت الصدمة بأن اعتقلني واحدٌ من زملائه لأنني كتبت وأنا في غزّة بعد حرب 2008 مقالًا في نقد أداء حماس سلطةَ حكم.
قبلها بأيّام، كان بديهيًّا أن أقبّل رأسه ويده التي تحمل السلاح حين ألتقيه، وقد فعلت مرارًا في الشوارع أو على الثغور، فمالي حين قابلته (شرطيًّا) يُفزع الأهل أو يخرس الصوت أخانقه ويخانقني، كعادتي مع كلّ شرطيّ في كلّ بلد؟
السلاح ذاته، واليد التي تحمله ذاتها، لكنّ تغيّر الوجهة بدّل الجوهر كليًّا، لم يُسقط عنهما كلّ جلال وشرف فحسب، إنّما أسقط تعريفهما نفسه، إذ لم يعد في هذا الموضع مقاومًا ولا هذا سلاح مقاومة.
لحمل السلاح شهوة، لا يسعى إليها إلا طائش مختلّ، ولولا الدفاع عن الأوطان ومقاومة الاحتلال، لكان ذلك هو الموقف من حمل السلاح مطلقًا، ولعلّ مشاهد عشتها عام 2008 داخل قطاع غزّة ذاته، رسّخت فيّ هذا الاعتقاد، وما زالت أحد مصادره في نفسي، إذ كان مراهقون وشبان حديثو السنّ والتجربة يحملون "الكلاشينكوف" في المفارق والدوارات بمخيّمات القطاع ومدنه، كضباط مرور مثلًا، لكنّ الفارق بينهم كمجاهدين -نحمل أحذيتهم فوق الرؤوس- وكموظفين للمرور أو الشرطة وغيرهما، كان هذا الفارق ساقطًا تمامًا في أذهانهم كما ممارساتهم، فكانوا يطلقون النار في حادث مروريّ مثلًا، أو -كما حدث معي ورفاق- يطلقون الرصاص على واجهة بيت كنّا فيه لأن طفلًا رفع من شرفته راية فتح.
انظر أيضاً إلى حال وسلوك جنود وضبّاط القوّات المسلّحة المصريّة منذ يناير/ كانون الثاني 2011 بعيدًا عن ابتذال ومسرحة مشاهد "الجيش والشعب إيد واحدة"، لتعرف أنّ حامل السلاح لن ينتقل بين الشخصيّتين (المقاتل، والمدني) بسهولة، أو لن ينتقل مطلقًا، فقد أصبح -خاصّة مع غياب الوعي، وطول التجربة العسكريّة وقسوتها- عسكريًّا وفقط، تحكمه قواعد العسكرة ويحكم بها حتى في بيته وبين أصدقائه، وفي الشوارع والميادين في مواجهة الهتافات والغنائيّات.
هذا أفقد بعض الأسوياء وعيهم، أو أفقدهم الرشد فأطلقوا النار على زملائهم هربًا من إطلاقه على المتظاهرين، كان (أ) معتقلًا بسجن طرة بتهم من بينها الإرهاب والقتل لأنّه رفض أمرًا بإطلاق النار على مظاهرة في وسط القاهرة بعد الانقلاب، وبعد الضغط عليه فتح النار على زملائه وهو يصرخ بهستيريا لم توقفها سنوات سجنه الطوال، وما زال محبوسًا في لحظته تلك، جانيًا ومجنيًّا عليه -لا أعلم حدود الوعي في هذه وتلك- معاقبًا عليهما وعلى استمرار اجترارهما في كوابيسه وصراخاته التي تفزع جيرانه وسجّانيه كلّ ليلة.
لكنّه السلاح، عندما تمسكه لمرّة أولى تتلبّسك شهوته، التي لن تقدر على الفرار منها مهما حاولت.
ليست هذه محاولة للتحليل النفسي أو حتى مقالًا في نقد عسكرة الأفراد مطلقًا (بعيدًا عن موقفي المجرّد من ذلك)، إذ في موضع وحيد كما أسلفت تصبح العسكرة واجبة والنكوص عنها خيانة أخلاقية قبل أن تكون وطنيّة، أقصد الدفاع عن الأوطان ومقاومة محتلّيها.
هذه المقدّمة تداعت في ذهني وأنا أشاهد صورة لعسكريين مصريين في سورية، أمام أحدهم مسدّس وخلفهم لافتة مكتوب عليها (أحرار 25 يناير)، يدعون للثورة على السيسي، أسوة بما جرى في سورية وكانوا طرفًا مباشرًا مقاتلًا فيه.
وقد خضت نقاشًا علنيًّا مع قائد المجموعة أحمد منصور على منصّة (X)، حول موقفي من عسكرة حراكات التغيير بالأساس، كان عنوانه لدى الرجل "سلميّتنا أقوى بالرصاص"، وبعيدًا عمّا في هذا الشعار من تناقض وحماقة، أفزعتني فيه التعليقات المناصرة للفكرة، رغبة في الثأر والانتقام من السلطة -وكثير من شرائح المجتمع، أنا منهم- على المظالم التي تعرّضوا لها في عشريّة السيسي.
وأورد هنا النقاط الأساسيّة في هذا النقاش، ربّما نعود إليها تفصيلًا في نصّ آخر:
- أقدّر رغبات الناس في الثأر وأعرف قدر ما يستر من العقل -خاصّة أصحاب الثارات الحقيقيّة، الذين دهستهم السلطة على هامش صراعها على الحكم- لكنّي أيضاً أرفض أن يكون الغضب أو الثأر هما ما يوجّه المسارات ويحدد المصائر للبلد وناسه.
- الظهور العسكري في مواجهة سلطة لا تحمل إلا السلاح خدمة أصيلة لها، إذ تمنحها الفرصة لارتكاب المزيد من الجرائم، خاصّة وقد رأينا محاولات عديدة عبر العشريّة السوداء أكثر تمويلًا وتجهيزًا، لم تؤدِّ إلا لترسيخ صورة الدولة الوطنيّة في مواجهة الإرهاب، وتمنح بالتالي هذه الدولة المزيد من الشرعيّة في أذهان جمهورها المنحاز والجمهور المحايد.
- تسليح وتدريب وتمويل الحركة في سورية، وأثره على الخريطة السوريّة واحتلالاتها الأجنبيّة، والمسلّح ولاؤه لمن سلّحه أو موّله أو درّبه، ما يحوّله لوكيل احتلال في أهون الصياغات.
- تجاهل الفارق في انقسام الولاءات مؤسّساتيًّا ومجتمعيًّا في سورية، وبين الحال المصري في المؤسّسة العسكريّة كما في المجتمع، حماقة وهو أوّل معطى يجب إدراكه عند النظر في الموقف من السلطة لرافضيها أو حتى الراغبين في إسقاطها.
- القفز على التجارب وانتحال المسمّيات، تمامًا كما إنكار الواقع -وهو لون منه فعلًا- طفولة وطيش ونتيجته الوحيدة فشل المحاولات -الجاد منها- وانفجارها في وجه أصحابها والمستجيبين لهم، وربّما في وجه البلد كلّه حال قابليّة أحدها للحدوث.
- النضال السلمي (اللاعنيف) هو الطريق الوحيد للمؤمنين بمسار التغيير في هذا البلد، لمن أراد الحفاظ عليه، وعلى ناسه، وعلى مشروع التغيير ذاته.
- انتحال نحلة الغالب انتصار له، وهزيمة للمغلوب الذي يدّعي خروجه للحريّة والناس، ولعلّ انغلابه في مواجهة غير عادلة أشرف من حمله السلاح والقيام بالتسليم لأخلاق القاتل وسلوكه وأدواته في الانتصار.
- أخيرًا: معركة 25 يناير كانت وما زالت التخلّص من حكم المسدّس لا تغيير هويّة حامله.