التاريخ يعيد نفسه مرتين

24 نوفمبر 2024
+ الخط -

على مدى ما يقرب من نصف قرنٍ من العمل السينمائيّ، أثبت ردلي سكوت أنّ التاريخ ليس مجرّد وقائع جامدة، بل حالة ذهنيّة مشروطة، بل ربّما مرغوبة أحيانًا، وبينما ينهمك المؤرّخون في التدقيق في تفاصيل مجهريّة، مثل عدد الأزرار على زيّ نابليون أو مدى واقعيّة وجود أسماك القرش في الكولوسيوم الرومانيّ، يبدو أنّ المخرج، الذي بلغ من العمر 86 عامًا، لا يلقي بالًا بهذه الانتقادات أو السخرية. وعند هذا المخرج، لا يهمّ إن تمّ وصف أعماله بـ"هراء هوليوود".

ما يهمّ هو الإقدام والشجاعة التي تميّز ملاحمه السينمائيّة، حيث يستمرّ فيلم "Gladiator 2" في استكشاف إرث مكسيموس وقصّته الملحميّة، وكما نحن جميعًا مفتونون بعظمة روما وطموحاتها التوسعيّة، وكذلك سكوت، الذي يظهر لنا في كلّ مرّة ازدواجيّة الإمبراطوريّة: عظمة لا حدود لها يقابلها فساد يؤدّي حتمًا إلى السقوط.

عادت هذه الأفكار عن الإمبراطوريّة إلى الواجهة قبل 20 عامًا، مع إصدار أوّل فيلم "Gladiator"، وهي تستمرّ الآن بقوّة في الجزء الثاني. لكن يبقى السؤال المثير للدهشة في الأذهان: ما الذي يدفعنا دائمًا إلى العودة لهذه العوالم؟

يسافر بنا المخرج ردلي سكوت مجدّدًا في عوالم روما القديمة، تلك العصور التي تألّقت بالهندسة المعماريّة المهيبة، والمعارك الملحميّة، والتشابكات الأخلاقيّة وغير الأخلاقيّة المثيرة للجدل. ومع ذلك، لا يكتفي سكوت بتكرار المألوف، بل يضفي على هذا العمل لمساته الخاصّة التي تحرّك خيال المشاهد. المحاربون هنا ليسوا مجرّد محاربين بشريّين يتصارعون، بل يواجهون تحدّيات غير مألوفة، من معارك مع القرود الشرسة، إلى مواجهات مع وحيد القرن، بل حتى صراع من أجل البقاء في مياه تسبح فيها أسماك القرش المفترسة.

تتجلّى قسوة المشاهد بشكل متزايد، ويزداد معها جنون الشخصيّات وبطشهم، في انعكاس لا يخطئ لصورة روما التاريخيّة المتقلّبة. وفي الوقت نفسه، تبلغ براعة المؤثّرات الخاصّة ذروتها، ممّا يجعل التجربة السينمائيّة أكثر إبهارًا. وهذا راجع إلى أنّ هوليوود تغذّي هذا العمل بحجم كبير من الموارد والإبداع، ممّا يجعل من هذا الفيلم تجربة لا ينبغي تفويتها، حتى لو تسلّل إلى قلبك بين الحين والآخر شعور مألوف بـ"Déjà vu".

تشهد السينما الحديثة العديد من التتابعات التي تحاكي الأعمال الأصليّة بوضوح، وهو ما قد يثير شعورًا بالغثيان لدى المشاهدين الأكثر وعيًا، لكنّ فيلم "Gladiator 2" يبتعد عن هذا النمط إلى حدّ كبير. فقد صدر الجزء الأوّل في زمن كان فيه الأبطال الشجعان، الذين يحملون ذات طابع مسيانيّ يهيمنون على الشاشة (المسيانيّة أو المسيحانيّة هو الإيمان بقدوم المسيح الذي يعمل مخلّصاً لمجموعة من الناس) وكان ماكسيموس يقف جنبًا إلى جنب مع شخصيّات ملحميّة مثل ويليام والاس من "Braveheart" وأراغورن من "The Lord of the Rings".

أمّا من الناحية البصريّة، فقد اتّبع الفيلم الأصليّ نهجًا مختلفًا، حيث تمكّن المخرج ردلي سكوت ببراعة من المزج بين تقاليد هوليوود الكلاسيكيّة واستخدام المؤثّرات البصريّة القويّة التي كانت تتزايد شعبيّتها آنذاك. وبهذا، أبدع سكوت في رسم معالم إمبراطوريّته الرومانيّة الخاصّة في الجزء الثاني على الشاشة الكبيرة، بقدر من الفخامة والبراعة الفنيّة لم يكن يحلم به مخرجون من أجيال سابقة.

أبدع سكوت في رسم معالم إمبراطوريّته الرومانيّة الخاصّة في الجزء الثاني على الشاشة الكبيرة، بقدر من الفخامة والبراعة الفنيّة لم يكن يحلم به مخرجون من أجيال سابقة

لكنّ الزمن تغيّر. لم تعد المؤثّرات الخاصّة تثير الدهشة كما في السابق، فهي الآن جزء مألوف وأساسيّ من عمليّة الإنتاج السينمائيّ. في الوقت ذاته، تواجه الشخصيّات الذكوريّة القويّة التقليديّة تحدّيًا جديدًا، إذ أصبح البطل المثاليّ في حاجة إلى اجتياز اختبار التحرّر من الذكورة السامّة ليحظى بمكانة البطل غير المشروط.

ما يميّز السير ردلي سكوت، الذي يقترب من التسعين من عمره، هو إدراكه العميق لهذه التحوّلات. ويمكن القول إنّ أفضل وصف لـ "Gladiator 2" هو الاستشهاد بالمقولة الشهيرة: "التاريخ يعيد نفسه مرّتين، الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة". فالفيلم الجديد لا يسعى لمضاهاة العمق الدراميّ للجزء الأوّل، بل يقدّم نسخة مكثّفة من عناصره، أحيانًا بشكل كوميديّ وأحيانًا بشكل مبالغ فيه إلى حدّ الطرافة.

هل تتذكّرون الإمبراطور المجنون كومودوس؟ الآن لدينا اثنان منه! هل تتذكّرون الصديق المخلص ذا البشرة الداكنة؟ هذه المرّة سترون اثنين منه أيضًا! أمّا المشاهد القتاليّة، فإنّها أخذت منعطفًا أكثر جنونًا: إذا كان مكسيموس قد واجه نمرًا في الساحة في الجزء الأوّل، فإنّ التحدّيات في هذا الجزء الجديد تتجاوز ذلك بكثير. الساحة الآن تعجّ بالقرود الشرسة، وأسماك قرش تسبح في مياه الكولوسيوم كما لو كان حوض سباحة، ووحيد قرن مقاتل يضيف لمسة من الفوضى المثيرة. وهنا يبدو أنّ الفيلم يضاعف كلّ شيء – الشخصيّات، والمخاطر، والغرابة – ليخلق تجربة فريدة، لكنّها قد تثير الجدل بين عشّاق الجزء الأوّل.

مشاهد المعركة في "Gladiator 2" تظلّ أحد أبرز نقاط القوّة التي يتقنها المخرج ردلي سكوت، إذ يقدّم لوحات قتاليّة مثاليّة تسحر العين وتحبس الأنفاس، أبرز هذه اللحظات هي تلك التي يتقدّم فيها بول ميسكال، بهيئته القويّة والصامتة، ليطيح خصمَه التالي ببراعة لا تحتاج إلى كلمات.

لكن بمجرّد أن تغادر القصّة حدود الساحة المهيبة، يبدأ الإيقاع بالتباطؤ، ويقلّ الشغف.

تملأ الشخصيّات المشاهد بخُطب مطوّلة حول "الحلم الرومانيّ" الذي يتصوّر عالمًا تحكمه العدالة بدلًا من طموحات الطغاة المجانين. ورغم أهميّة هذه الرسائل، تبدو الحوارات باهتة وغير ملهمة، وكأنّ الجميع – الشخصيّات والمشاهدين على حدّ سواء – ينتظرون بفارغ الصبر العودة إلى الكولوسيوم حيث يكمن سحر الفيلم الحقيقيّ.

يتعرّض التوازن بين الشخصيّات في فيلم "Gladiator 2" لانتهاك واضح، وربّما كان ذلك مقصودًا، ففي حين أنّ مكسيموس وكومودوس في الجزء الأوّل كانا خصمين متكافئين في القوّة والعمق، فإنّ الوضع مختلف هنا، يستولي دينزل واشنطن، في دور ماكرينوس، على الأضواء بشكل لا يمكن إنكاره، حيث يتفوّق بسهولة على الجنرال الباهت الذي يجسّده بيدرو باسكال، بل حتى على شخصيّة لوسيوس نفسها.

واشنطن يحوّل شخصيّة العبد الطموح الذي يسعى ليصبح إمبراطورًا إلى شخصيّة تكاد تلامس أعماق التراجيديا الشكسبيريّة، إنّه الشرّير الماكر ذو الخطوط الأكثر حدّة والأزياء الأكثر أناقة، وبتجسيد تمثيليّ مقنع يجعل منه العنصر الأكثر تميّزًا في الفيلم.

ببراعة أدائه، يرفع واشنطن من مستوى الفيلم بأكمله، تاركًا الشخصيّات الأخرى في ظلّه.

إنّ النطاق الذي يطرحه سكوت في أعماله هو بحقّ ملحميّ، وما يعزّز من روعته هو إحساسك بأنّ الرجل، لو أوكلت إليه مهمّة افتتاح الألعاب الأولمبيّة، لجعل منها حدثًا يتردّد صداه عبر الأجيال. ولكنّه، كما يبدو، مشغول جدًّا بإحياء مجد روما السينمائيّ.

وسيم أبروم
وسيم أبرون
كاتب في المجال السينمائي وخريج جامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط ومعهد التكنولوجيا التطبيقية بمدينة سلا. كاتب مع مواقع ومنصات عربية معروفة.