التأسيس المعرفي بين استلاب الجماهير ورغبة التحرّر

14 يناير 2025
+ الخط -

حينما تُغلق العقول أبوابها عن واقعها، وتنفصل المعرفة عن نبض الحياة وتحوّلاتها، يتحوّل ذلك التراكم الفكري الخاضع لسيرورة تاريخية مفعمة بالبعد الزماني والمكاني إلى كلماتٍ جوفاء لا تجد صدى في قلوب الناس أو عقولهم، بسبب ارتباطها بلحظاتٍ تاريخية لم تعد تستجيب لتحوّلات العصر، ولا لمخرجاته الفكرية، ذلك أنّ الإبداع الفكري ليس مجرّد لعبة ذهنية معزولة، بل هو جسر ممتد بين ما يُكتب وما يُعاش، في تفاعل متناغم بينهما، والمحصلة هي كثرة ما يُكتب ويُدوّن وانعدام التأثير في أرض الواقع.

إنّ تجاهل سلطة الواقع، وعدم أخذها بعين الاعتبار أثناء عملية إنتاج المعرفة الهادفة، سيؤديان بالضرورة إلى طرد القارئ من عملية التغيير وعدم انجذابه لما يُكتب، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى ما يُقذف له من رؤى لا تسعفه على الانتقال نحو ما يودّ الكاتب طرحه. فالمعالجات الفكرية التي تُطرح بعيدًا عن المجريات القريبة من الناس وحيواتهم وهمومهم، ستنصدم بعدم جدواها، لأن المعرفة التي تُغفل ظروف القارئ وتحدياته تصبح كغريب يطرق بابًا لا يُفتح له، لأنه لم يُصغِ لاحتياجات ساكنيه.

والكلمة تزهر حين تلامس الأرض التي تخرج منها، وحين تتحوّل الأفكار إلى مرايا صادقة تعكس الواقع وتُعيد صياغته بلغةٍ تُخاطب القلوب قبل العقول، لتبقى حيّة في ذاكرة الزمان والمكان، على غرار ما قام به كتّاب عصر النهضة الأوروبي. فالمطلع على تطوّرات الفكر الإنساني الذي أُنتج في هذه الفترة التاريخية يجد أنها لا تخرج عن هموم الواقع الفكرية، إذ لم يكن باروخ أسبينوزا ليعالج فكرة الإله والطبيعة إلا بعدما وجد إشكالًا عويصًا في معتقد الناس يحدّد النمو والارتقاء، وكذلك فعل ديكارت أمام الشك المنهجي، وسار على منواله إيمانويل كانط، وهو نفس ما قام به جان جاك روسو وغيره من المبدعين الذين انطلقوا من واقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني والفكري، ولسان حالهم يقول إنّ معالجة الواقع لا تتم إلا بمعالجة الأفكار التي تصنع تلك الوقائع. 

الإبداع الفكري ليس مجرّد لعبة ذهنية معزولة، بل هو جسر ممتد بين ما يُكتب وما يُعاش، في تفاعل متناغم بينهما

سلطة الواقع تفرض نفسها مرآة أمام كلّ كاتب يسعى إلى مخاطبة القارئ، فهي الحبل السري الذي يربط الفكرة بالحياة ويمنحها شرعيتها وعمقها، وحين تغفل الكتابة هذا الرابط الحيوي، فإنها تفقد جاذبيتها وتتحوّل إلى صدى فارغ، مما يدفع الكثير من الشباب إلى هجر الكتب والمعارف التي تعجز عن مخاطبة عطشهم المعرفي، ولا تقدّم إجابات تشفي تساؤلاتهم الوجودية في شتى المجالات والميادين. وهنا يصبح فعل القراءة مصدرًا للهدم من خلال ما يُقدّم للقرّاء، ويمكن التمثيل على ذلك بالكم الهائل من كتب التراث؛ إذ على الرغم مما تحمله من إرثٍ عظيم، تجد نفسها على هامش اهتمامات القارئ المعاصر؛ ذلك لأنها كثيرًا ما تُعرَض بمنأى عن الشروط التاريخية والزمانية والمكانية التي أنتجت فيها، فتبدو كرسائل من زمن مضى لا تحمل خطابًا للحاضر، وتصبح طيفًا من الماضي، في وقتٍ يحتاج القارئ إلى فكرٍ ينبض بروح العصر ويتجاوب مع تحدياته، ويستجيب لتطلعاته.

إنّ محاولة إرضاء القارئ أشبه ما تكون بمحاولة تشكيل المعرفة على مقاس الأهواء، فتُجرّد من جوهرها لتصبح ترجمة لرغبات الآخرين فحسب، بينما المعرفة الحقيقية ترفض الانحناء لإرادة الجمهور؛ فهي كما قال شوبنهاور تمرّ بثلاث مراحل، قد يسخر الجمهور منها في البداية ثم يقاومها بعنف، ثم تُقبل كأمر بديهي، بما يشبه الصدمات الإيجابية التي تترك في النفس آثارا تنفذ إلى عمق الإنسان لتصلح ما به من أعطاب.

 إنّ تجاهل سلطة الواقع، وعدم أخذها بعين الاعتبار أثناء عملية إنتاج المعرفة الهادفة، سيؤديان بالضرورة إلى طرد القارئ من عملية التغيير

ولذلك، فإنّ السعي إلى إرضاء القارئ غالبًا ما يؤدي إلى إنتاج معرفة مبتورة، تخدّر العقول بدل أن توقظها، وتخدم الأذواق بدل أن تتحدى المفاهيم، وهو ما يُبرز دور الكاتب الذي ينبغي له أن يدرك أنّ دوره ليس استرضاء الجمهور، بل تقديم ما ينير الفكر ويثير التساؤلات، حتى وإن كان ذلك صادمًا أو مزعجًا. فالمعرفة، بطبيعتها، وُجدت لتبحث عن الحقيقة، لا لتنسجم مع أمزجة العابرين. وخلاصة الأمر أنّ من معضلات المجتمعات المعاصرة جدلية الرغبة نحو التحرّر والانعتاق من أسر التخلف الذي استشرى في النفوس والعقول، والجنوح نحو تمديد أمد هذا التخلف عبر الكثير من النتاج المعرفي الذي يُطرح في عالم الطباعة والنشر.

ريهام أزضوض
ريهام أزضوض
كاتبة وباحثة في قضايا النهضة، خريجة من جامعة أسكودار في قسم الاعلام الجديد والاتصال في اسطنبول بتركيا، درَستْ القانون في جامعة محمد الأول في المغرب، تقنية وخبيرة في التجميل الطبي للعناية بالبشرة والشعر. تعرف نفسها، بالقول: "اصبر ثم اصبر حتى يتغنى الصبر بك".