البيروقراطية الأميركية تحت المقصلة

08 فبراير 2025
+ الخط -

على مر التاريخ، كانت عمليات التطهير السياسي أدوات لتعزيز السلطة، بذرائعَ راوحت ما بين تعزيز الكفاءة إلى التطهير الأيديولوجي. ففي عصرنا الحديث أدى التطهير العظيم في عهد جوزيف ستالين ما بين أعوام (1936-1938)، إلى القضاء بشكل منهجي على التهديدات المتصورة داخل الحزب والجيش والحكومة والمجتمع بشكل عام، في عملية دموية فقد خلالها مئات الآلاف حيواتهم. وبالمثل، شهدت ألمانيا النازية في "ليلة السكاكين الطويلة" أو عملية "الطائر الطنان" سنة (1934) قيام أدولف هتلر بتطهير مليشيات كتيبة العاصفة، وصديقه إرنست روم، والعديد من المنافسين السياسيين، مما عزز سيطرته المطلقة على النظام. وحتى في العقد الأخير يمكننا التعرف على عدة عمليات تطهير لربما سياسية بيروقراطية أكثر منها دموية في عدة دول. هذه التطهيرات، على الرغم من تمايزها في الأيديولوجية والتنفيذ، تشترك في خيط مشترك واحد، ألا وهو إعادة هيكلة عدوانية لمؤسسات الدولة وتعزيز مركزية السلطة. 

اليوم، يبدو أن عملية تطهير جديدة أكثر بيروقراطية ولكنها جذرية بالقدر نفسه تتكشف في الولايات المتحدة الأميركية تحت قيادة إيلون ماسك بصفته وزير إدارة الكفاءة الحكومية (DOGE)، مع مخاوف متزايدة من كونها تطبيقاً متطرفاً لرؤية مشروع 2025، الذي أقر مجلس الشيوخ الأميركي تعيين راسل فوغت، أحد مهندسيه وعرابيه في قيادة مكتب الميزانية ذي النفوذ الواسع في البيت الأبيض. 

فقد تميزت أيام إيلون ماسك الأولى في الإدارة الأميركية بحملة قمع غير مسبوقة على الوكالات الفيدرالية، وأبرزها تجميد المساعدات الخارجية والبدء بتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). وعلى عكس جهود إعادة الهيكلة السابقة، والتي كانت في الغالب عبر عملية ديمقراطية تشاركية تدريجية تنطوي عادة على مداولات تشريعية، كان نهج ماسك خاطفًا، ومن جانبٍ واحد، ومثيرًا للجدل قانونيًّا. هذه التحركات من دون التنسيق مع الكونجرس وأصحاب المصلحة أعادت إلى الأذهان مقارنات مع عمليات التطهير السياسية التاريخية. ففي حين يستمر ماسك وحلفاؤه في تبرير هذه التحركات تحت لواء الكفاءة، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية، وإيقاف هدر المال العام، ومكافحة الفساد، يزعم المنتقدون أنها ترقى إلى إعادة تشكيل أساسية للحكومة الفيدرالية على أسس أيديولوجية.

يبدو أن عملية تطهير جديدة أكثر بيروقراطية ولكنها جذرية بالقدر نفسه تتكشف في الولايات المتحدة الأميركية تحت قيادة إيلون ماسك بصفته وزير إدارة الكفاءة الحكومية

يمكننا تتبع جذور المخطط الأيديولوجي لهذه الإجراءات إلى مشروع 2025، وهو أجندة سياسية محافظة بدأت بتطويرها مؤسسة هيريتيج (Heritage Foundation) مع ما يقرب من 100 منظمة محافظة عام 2022، لتشكل خريطة طريق لإعادة هيكلة الحكومة الفيدرالية الأميركية وفقًا للمبادئ المحافظة، تجهز من خلالها كوادر مؤهلة وسياسات جاهزة للتنفيذ مع وصول إدارة جمهورية إلى البيت الأبيض في 2025 وقد حصل. 

وتدعو هذه الأجندة إلى تعزيز السلطة التنفيذية للرئيس من خلال تقليص استقلالية الوكالات الفيدرالية، وتفكيك المؤسسات التنظيمية وتقليص صلاحياتها مثل وزارة العدل ووزارة التعليم وحتى إلغائها بهدف تقليل نفوذ الدولة العميقة، وعمل تغييرات جذرية في تركيبة الموظفين لضمان التوافق الأيديولوجي داخل الإدارة العامة الأميركية، وفقًا لأنصار المشروع، بينما يحذر معارضوه من أنه قد يهدد التوازن الدستوري بين السلطات ويؤدي إلى مركزية مفرطة للسلطة التنفيذية.

في حين يقدم مشروع 2025 نفسه بصفته إطاراً سياسياً استراتيجياً، يبدو أن تفسير ماسك جاء أكثر عدوانية بكثير، مسرعاً إعادة هيكلة الحكومة بما يتجاوز حتى التوصيات الأصلية للمشروع. فالطريقة التي يتم بها تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والسيطرة على نظام مدفوعات الخزانة وإدارة عقارات الحكومة الأميركية، ودراسة تفكيك وزارة التعليم، وتقليص حجم الحكومة على المستوى الفيدرالي، والاستغناء عن الموظفين الفيدراليين وتشجيع الآخرين على الاستقالة، ونقل الصلاحيات إلى المستوى المحلي على مستوى الولايات، بشكل سريع وصادم يلتف على الضوابط القانونية والديمقراطية، توضح مخاطر مثل هذا النهج المفضي إلى سلطة تنفيذية غير مقيدة تعيد تشكيل المؤسسات مع الحد الأدنى من الرقابة وإدارة المخاطر.

إن التأثير المباشر لعملية التطهير الجارية سيكون تآكل الاستقرار المؤسسي داخل الحكومة الأميركية. ومن خلال استهداف الوكالات التي يُنظر إليها على أنها غير فعّالة أو غير متوافقة أيديولوجيًّا مع توجهات ماسك ومعلمه، فإن إعادة الهيكلة بهذا الشكل تخاطر بتفريغ الوظائف الحيوية للدولة، وقد تؤدي مثل هذه الاضطرابات الإدارية الجذرية إلى تقليص قدرة الحكومة على الاستجابة بفعالية للأزمات، وإضعاف الثقة العامة بالحكومة، وتعزيز الاستقطاب الحزبي. كما يتم وضع سابقة حيث يمكن حل الوكالات أو إعادة تشكيلها وفقًا لتقدير شخصية تنفيذية نافذة من دون أية تشاركية أو حوكمة لصناعة القرار واتخاذه، مما يثير المخاوف بشأن مستقبل الاستقلال الإداري والحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية.

وبعيدًا عن المخاوف المحلية، فإن العواقب العالمية لهذا التطهير ستكون عميقة بالقدر نفسه. على سبيل المثال، تشير محاولة تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية المفاجئة إلى تحول في السياسة الخارجية الأميركية بعيدًا عن المساعدات الإنسانية التقليدية ودبلوماسية القوة الناعمة، فمن جهة المصالح الأميركية قد يؤدي هذا التحول إلى التنازل عن النفوذ لقوى منافسة مثل الصين، ومن جهة إنسانية قد يعرض الملايين في العالم للخطر بسبب توقف المساعدات من دون تقديم بديل محلي ومستدام لسد الفراغ. وإذا امتد نهج ماسك إلى وكالات أخرى مشاركة في التعاون الدولي، فإن التأثيرات المتتالية قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الشراكات العالمية، وتقليص المشاركة المتعددة الأطراف، وإعادة تعريف الموقف الجيوسياسي لأميركا، مع أنني شخصيًّا لا أعلم إن كان هنالك أسوأ من مواقفها الحالية. وعلاوة على ذلك، قد تستلهم الأنظمة السلطوية من هذا النموذج، باستخدام السرديات المدفوعة بالكفاءة لتبرير عمليات التطهير المؤسسية والسياسية الخاصة بها، آخذين بالاعتبار أن الكثير من هذه الأنظمة متخصص بالفعل بهذه العمليات ولكن التحرك الأميركي سيسهل نزع ما تبقى من برقع الحياء عن الجميع.

في نهاية المطاف، يمثل التطهير الفيدرالي الذي يقوم به ماسك ومنظرو مشروع 2025 أكثر من مجرد إعادة هيكلة بيروقراطية؛ إنه تحول سياسي وإداري وأيديولوجي جذري لجهاز الدولة. ومن غير المؤكد أو الواضح ما إذا كانوا سينجحون في تحقيق مسعاهم، أم سيتدهور هذا المسعى إلى خلل إداري وكارثة بيروقراطية، لكن أوجه التشابه التاريخية تروي لنا قصة تحذيرية، فغالبًا ما تترك عمليات التطهير الحكومية الأيديولوجية أو السلطوية، بغض النظر عن مبررها، ندوبًا دائمة على المؤسسات والهياكل التي تدعي محاولة إصلاحها

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.