البيت
على قناة "ناشيونال جيوغرافي"، كانت هناك سيّدة تساعد رجلاً في مكانٍ ما أشبه بالريف، أو بالأحرى أطراف غابة، في بناء منزل من الخشب وجذوع الشجر. كان الشخصان في عقدهما الخامس ربّما، مترهلان كما يترهل الأميركيون ذوو البشرة البيضاء حين يتقدّمون في العمر ويسمنون، يتعاونان في نشر الخشب وتعشيق أطرافه وتجميعها بما تيسّر من إمكاناتٍ في هذا المكان البعيد عن المدينة وبأدواتٍ بدائية، لكنها فعالة.
كان صوت الراوي في الفيلم الوثائقي يشرح لنا الحيل والأفكار التي لجأ إليها هذان الشخصان، التي سوف تساعدنا، لو أردنا، في أن نحظى ببيت جميل ودافئ من خشب الغابة المجاورة. بيت نبنيه بأنفسنا، على قياسنا وبقدر حاجتنا ووفق مخيّلتنا، بمعاونة الأصدقاء والجيران، وبالتالي من دون تكلفةٍ كبيرة.
كان الوجهان مرحَين على الرغم من التعب الشديد، بدليل العرق الذي كان يتصبّب منهما وهما يعملان تحت شمسٍ قوية.
فوجئت بنفسي منجذبة للمتابعة بشغفٍ كبير على الرغم من انشغالي الشديد يومها بمتابعة أخبار الحرب، لا أحيد ببصري عن الوثائقي. هل كان ذلك لإراحة عينيّ من الكمّ المهول لصور ركام المنازل المُبادة في غزّة ولبنان؟ ربما، لكنني لا أظن، فمنذ زمن طويل كانت تلك المحاولات لبناء بيوت مختلفة عن السائد، الطينية منها خاصة، أيّ تلك التي كان أجدادنا يبنوها بمساعدة الجيران من تربة الأرض والقش، تجذبني.
ثم سألت نفسي: لماذا نحن شغوفون ببناء البيوت؟ هل هي فطرة الإنسان؟ غريزة مغروسة في جيناته كما النمل والطير؟
لماذا نحن البشر، شغوفون ببناء البيوت؟ هل هي فطرة الإنسان؟ غريزة مغروسة في جيناته كما النمل والطير؟
وطفقت أتذكّر بيوتي التي سكنتها بالتوالي بين لبنان وفرنسا وأماكن أخرى من العالم، التي كانت بمثابة تاريخ تطوّر استقلاليتي منذ انفصالي عن البيت الأبوي للدراسة في باريس.
هناك، وبعد غرفة ضيّقة سكنتها لشهور، وفي مكان غير منتظر أن تحظى به حتى بغرفة وحمام، كافأتني الصدف على رغبتي الشديدة ببيت مستقل، فمنحتني فجأة بيتاً كاملاً في الضواحي الباريسية بطوابق ثلاث مع حديقة! كان ذلك أشبه بجرعة زائدة قد تودي بك، ولم أدر ماذا أفعل بكلّ تلك الطوابق التي كان إيجارها المنخفض يعادل أجرة مجرّد غرفة في باريس.
كان المكان، خاصة أنه يقع في بلدة صغيرة تنام باكراً، مخيفاً، كوني لوحدي. لذا استقدمت أختاً لتسكن معي، لكنها خافت هي الأخرى وعادت إلى السكن الطلابي. ثم اعتدت عليه، فشاءت الصدف أن يعرضه صاحبه للبيع ويشتري بدلاً منه شقة صغيرة في باريس، انتقلت إليها.
كان بيتاً على قدر حاجتي: مجرّد غرفة نوم وصالون مع منافعهما. كنت راضية أكثر مما كنت عليه في "الفيلا" التي كنت أسكنها. وقلت في نفسي إنّ البيت لا يكون أي بيت. بل ذلك الذي نحسّ بأنه قريب إلى جلدنا ليحمينا كما البيات في حضن حنون.
وكان لنا بيت آخر أجمل وأكبر بما لا يُقاس في القرية. لكنه كان للجميع. أي أنك لا تستطيع أن تحظى بمتعة غرفتك الخاصة فيه على الرغم من أنّه لك غرفة خاصة! وأخذت مرّة أخرى أحلم ببيت، لكن هذه المرّة من تلك المنازل الجاهزة، التي ما إن تضغط مرّة على الإعلان عنها على "فيسبوك" طلباً للمزيد من التفاصيل، حتى يُسجل ذلك في الخوارزميات على أنه من مواضيعك المفضّلة، فتنهمر عليك العروض لمساكن جاهزة مماثلة من كلّ حدب وصوب.
البيت لا يكون أيّ بيت. بل ذلك الذي نحسّ بأنه قريب إلى جلدنا ليحمينا كما البيات في حضن حنون
وفي الحقيقة لم أكن أملّ منها، بل كنت أتفحصها واحدة تلو أخرى، وأتخيّلني أشتري أحد هذه المنازل وأثبته في طرف البستان البعيد عن بيت العائلة في القرية لأحظى ببعض الخصوصيّة، من دون أن أنتقل فعلاً إلى التنفيذ، كما لو كان تصوّر ذلك لذيذاً بحدِّ ذاته.
ثم صرت أحنّ إلى الوقت الذي لم أكن أمتلك فيه بيتاً لأحلم بامتلاك بيت، وفهمت إنني كنت أتلذّذ بالحلم ببيت أكثر من امتلاك البيت. وتساءلت لماذا؟ ولم أفهم.
وفي بيروت حيث أسكن من عقدين، لم أحلم ببيت أكبر أو أجمل، فبيتي يكفيني وزيادة. لا بل إنني أتأسف للغرفة الزائدة عن حاجتي، وأفكّر كيف من الممكن أن أستفيد أو أفيد أحداً منها. كانت الغرفة فارغة دوماً على جمالها. فأبي قبل وفاته بسنوات لم يكن يتزحزح عن مقعده في بيته في مدينة أخرى بعيدة بعض الشيء عن مسكني، لكنه زارني حين اشتريت شقتي هذه ليتعرّف على بيت ابنته ويفرح لها ويطمئن إلى مكان مكوثها.
أما أمي، والتي أسميت الغرفة الزائدة في بيتي الجديد باسمها لترغيبها بزيارتي أكثر، فلم ينفع ذلك الإغراء معها بتاتاً. هكذا، حين كانت تأتي إلى العاصمة، كانت تفضّل البيات في منازل إخوتي التي كانت تعج بأطفالهم، أما إن حدث ومكثت عندي بعد إلحاح و"زعل وحرد"، فإنها كانت تجلس بالبيجاما على الكنبة المقابلة لي في غرفة الجلوس أمام التلفزيون كمن لا يعرف ما الذي سيفعله الآن! تماما كما عندما نكون في زيارة لشخص ما قريب، لكن ليس بالقدر الكافي للتصرّف بحرية في منزله! ولقد تساءلت دوماً: لم تحسّ أمي بذلك؟ لم لا تأخذ راحتها في منزل ابنتها؟ ولم أفهم. فقلت لنفسي اتركيها لتفعل ما تشاء. فتركتها. ولم تعد تأتي لزيارتي في بيتي، بل تثابر على دعوتي عندها، كما لو كانت غير قادرة على رؤيتي بوصفي طفلَتَها إلّا في منزل الأسرة.
هناك، كانت تطبخ ما أحبّ قبل أن أصل. وهناك، كانت تتفقدني حين أقفل باب الغرفة لأركّز على كومبيوتري، فأردها ولا تزعل، لكنها كانت تزعل لأنني لم أمكث ما يكفي من الوقت لتشبع مني.
وهناك كانت تقف ووالدي على الشرفة، يراقباني وأنا أركب سيارة أجرة للعودة إلى منزلي في العاصمة. تلك الشرفة التي كنت حين ألتفت نحوهما، أراهما واقفين فيها، بعد كلّ زيارة، يكبران شيئاً فشيئاً في السن. وألمح في كلّ مرّة في عيونهما قلقاً متزايداً، ممتزجاً بشيءٍ من الحزن والاستسلام إلى أنها قد تكون المرّة الأخيرة.