البكاء والاستجداء وشهوة الجلّاد

08 مارس 2025
+ الخط -

بعد ليلاتٍ طويلاتٍ من الهلع على ليلى، في كوابيس منام ويقظة، وتردّد كلّ نصف ساعة تقريبًا على حساباتِ العائلة لأطمئنّ، أصحو اليوم ملبوسًا بالقلق على علاء، هل نسيناه في غمرة متابعتنا لحال ليلى وصمودها وحربها (التي هي لأجله وحريّته أصلاً)؟

هل سقط منّا سهوًا أن نعرف ما بهِ وهو لا يعرف متى سيخرج رغم إنهائه كامل عقوبته، ولا يعرف هل سيخرج ليلتقي أمّه أم ستلحق بأبيه، لا قدّر الله؟

"المرّة دي الخروج ثمنه حياة أبويا". قالها علاء لي في ضمّةٍ خاطفة على باب العنبر، في طريقه للخروج بعد إخلاء سبيله، قبل 11 سنة، ولا أنسى وجهه يومها، الذي لم يكن خالصًا للفرح رغم تنطيطه وسط العنبر وصياحه وهو يبلغني الخبر، أصلّي كي لا تتكرّر الفاجعة؛ ليخرج علاء فيجد ليلى مع خالد ومنى وسناء بالانتظار، وتكتمل اللمة أخيرًا.

...

تعرّضتُ للتعذيب كثيرًا، وما زالت الندوب تغطّي غالب جسدي، وباستثناء واقعة واحدة (مطلع 2009 م) لم يكن ثمّة غرضٌ من التعذيب سوى الإهانة، الانتقام، وكسر الإرادة، لعبة عضّ أصابع دنيئة مباغتة، لم أكن مستعدًّا لها ولا ممتلكًا لأدواتها، لكنّي طوّرتُ آليّات التعاطي معها لما ظننته نجاةً أو تجاوزًا يتجنّب انتصار السجّان من دون هزيمتي.

وبقيتُ في المعتقل طويلاً (أكثر من ثلث عمري) ولقيتُ فيه ما لقيتُ، وكان الغرضُ لا عقابًا على جريمة يناير فقط، إنّما في صياغة المُساوِم قبل سنين: "كلّ الملفّات اتنقلت من هنا لهنا (من مناوئ لمتعاون يقصد) مش هتقف عليك أنت وعلاء، وكده كده هتيجوا أو هتموتوا هنا" هذه جملة تكرّر قولها بصياغات مشابهة بعيدًا عن دقّة ما فيها.

لم يكن ثمّة غرضٌ من التعذيب سوى الإهانة، الانتقام، وكسرالإرادة

غرَضهم المحدّد (كما عبّروا وتشبّثوا بهيستيريا عنيفة) كان البكاء وطلب الرحمة، ولما لم ينالوه، توقّفوا.

أعلم أنّ توقّف التعذيب في هذا الحال مفهوم، إذ ليس بعده إلا القتل، ولم يكن مقرّرًا وقتها، لكن مع انتهاء الاعتقال توافرت الظروف غير القابلة للتكرار بسهولة، ولولا اجتماع المعطيات التي كان بعضها قدريًّا تمامًا، لما خرجت، فالبقاء للأبد (أبد حكم السيسي أو أبد أعمارنا، أيّهما أقرب؟) هو حدّ الاعتقال كما تقرّر، عقابًا على الحلم، ونفيًا للوجودِ، لا مجازًا فحسب.

ولعلّ هذا أشدّ ما كان علاء واعيًا به من باكر التجربة "مش هاخرج غير لما أموت أو عبد الفتاح السيسي يموت"، لا تشاؤمًا ولا استحقاقًا، إنّما إدراكًا بما عليه السيسي وأجهزته من فُجر الخصومة وشخصنة العداء وصفريّته مع الأغيار كلّهم، خاصّةً من رمّزوهم عداءً فترمّزوا صمودًا وإلهامًا".

...

أعرفُ أنه "يحقّ لأهل المعتقل ما لا يحقّ لغيرهم"، ودورنا دعمهم فيما أرادوا وفعلوا، بعيدًا عن موقفنا منه، لكن لا يجب أن ينبني موقفنا الجماعي على الاستجداء، هذه سلطة تنتشي بهذا الخطاب، تغذّي أمراضها ووسخ نفوسها على العرائض التي نقدّمها (وسنظلّ نقدّمها ولن نترك بابًا إلا وسنطرقه).

لكن خطابًا سياسيًّا متماسكًا، يفنّد الحقائق، وينسف الأكاذيب التي يردّدها صبيانهم الرسميّون في المحافل الدوليّة، أو الجالسون على شاشات المتحدة وصفحات الجرائد المدارة "من قبل جهاز سامسونغ"، ويسمّي الأشياء بمسمّياتها، هذا اختطاف وتلك تصفية، هذا إخفاء قسري وتلك محاكمات انتقامية، هذا تعذيب وذلك قتل ليشارك المساومون حين يشاركون كما شاؤوا، التفريط في التسمية ينفي الحقيقة، ليبقَ حزبٌ واحد، حركةٌ واحدة، تنظيمٌ واحد يقول ما يجب أن يقال بقاموسه الذي يجب أن يُقال به.

لستُ مشغولاً بهيبة الدولة ولا كرامتها، فلا دولة ولا كرامة في قصور الحكم، وكلّها لا تساوي عندي شراكَ نعل علاء ولا عادل ولا أي معتقل/ة غيرهما، لستُ مشغولاً باستيعابهم، فهم يعرفون ما يفعلون، وهذا مرادهم من الحكم أو وسيلتهم لتحقّقه وإحكامه.

أراهن على الضغط، وحده هنا أو هناك (تمامًا كما راهنت ليلى سويف حين قرّرت الإضراب عن الطعام: لا يتحرّكون إلا في وجود أزمة؛ سأخلق الأزمة)، لم تقصد الاستجداء حين فعلت، بل الضغط؛ لولا ذلك لما حصل أحدٌ على مكسب، ولولاه لما اضطرّت السلطة إلى تقديم شيء، أي شيء، حتى للمهزومين.