الاستثناء هو القاعدة والنظام هو الفوضى

06 مارس 2025
+ الخط -

في عالم السياسة (المعاصرة) يبدو أنّ حالة الاستثناء التي تحدّث عنها الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين في كتابٍ يحمل هذا العنوان "حالة الاستثناء"، تتحوّل إلى قاعدة أو تكون هي ذاتها القاعدة. وفي ظلّ هذه الحالة، يكون الإنسان مستباحًا. و"الإنسان المستباح" هو عنوان المجلّد الأوّل من سلسلة ضمت تسعة كتب لأغامبين وأصبح عنوانًا للسلسلة كلّها. ويمكن تكثيف أو تبسيط الأطروحة الرئيسة في هذا الخصوص بالقول إنّ حالة الاستثناء ليست مجرّد مكوّنٍ أساسي من كلّ نظام سياسي وقانوني/ قضائي فحسب، بل إنها تتحوّل إلى قاعدة، فيصبح تطبيق القاعدة استثناء وتطبيق الاستثناء قاعدة. ويسمح الاستثناء بوصفه قاعدة للسلطات بالخروج القانوني عن القانون ويجعل الإنسان مستباحًا ومحرومًا حرمانًا قانونيًّا من حماية القانون.

وفي العالم المعاصر، لم تعد السياسة مجرّد عالمٍ من عوالم متعدّدةٍ متداخلةٍ ومتشابكةٍ بالتأكيد، لكن أصبح عالم الإنسان عالمًا سياسيًّا بالكامل. فمع نشوء الدول الحديثة وتطوّرها وازدياد قدرة السلطات على الضبط والمراقبة والتحكّم والمعاقبة، وازدياد حضورها وهيمنتها في حياة المواطنين والجماعات والمجتمعات، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، تكون حالة الاستثناء السياسية حاضرةً في كلّ جوانب حياة الناس وتفاصيلها اليومية. 

في تصديره لكتاب "حالة الاستثناء: الإنسان الحرام"، يشير عالم الاجتماع العربي البارز ساري حنفي إلى وجود "أربعة أشكال لحالة الاستثناء كآلية سلطة في المنطقة العربية": حالة الطوارئ، إعفاء السلطة من بعض التزاماتها وواجباتها وإسقاط بعض الحقوق عن بعض الفئات، تضمين القانون استثناءات تتيح إمكانية تعليقه من دون تحديد السياق، غياب العقلانية عن البيروقراطية التي تحكم الدولة والمجتمع أكثر مما تحكمه القوانين واللوائح الواضحة. ويمكن للمواطن العربي، في ظلّ هذه الأشكال المختلفة للاستثناء أن يكون دائمًا مُستباحًا أو مُهددًا بالاستباحة. ويأخذ حنفي على أغامبين أنه ينظر إلى الناس المحكومين في حالة الاستثناء بوصفهم ضحايا، فقط أو بالدرجة الأولى، من دون أن يأخذ (كثيرًا) في الحسبان فاعليتهم الذاتية أو ذواتهم الفاعلة أو القادرة على الفعل، والتفاعل مع حالة أو حالات الاستثناء، وما تتضمّنه أو تفضي إليه من استباحة لهم.

حالة الاستثناء السياسية حاضرةٌ في كلّ جوانب حياة الناس وتفاصيلها اليومية

ما يحدّ من فاعلية الذوات التي تعيش في حالة الاستثناء لا يقتصر على إكراهات البنية والشروط الموضوعية فحسب، بل إن وعيهم الذاتي يلعب دورًا بالغ الأهمية في هذا الخصوص. فقد يعتاد الإنسان على حالة الاستثناء إلى درجة النظر إليها بوصفها أمرًا عاديًّا وطبيعيًّا ومقبولًا ومعقولًا. فالإحساس بالظلم والاستباحة ليس كافيًا للعمل على مواجهة السلطات التي تفرض حالة الاستثناء، بل ينبغي أن يرافقه، أيضًا وخصوصًا، وعيٌ بأسباب الظلم والاستباحة وبعدم عادية الاستثناء وبضرورة بقائه استثناء فقط.

يعيش السوريون منذ عقودٍ طويلةٍ في حالة استثناء تخترق حيواتهم بكلّ تفاصيلها. ففي العهد الأسدي، كان هناك حالة طوارئ رسميةٌ وقانونيةٌ منذ 1963، وجرى إيقاف العمل بقانون الطوارئ عام 2011، من دون إبطال حالة الاستثناء/ الطوارئ. فاستثنائية حالة سورية بعد 2011 ليست أقل قوة وسوءًا من استثنائية قبل عام 2011. ولتوضيح قوة تلك الاستثنائية وسوئها، قد تكفي الإشارة إلى أنّ مئات الآلاف من السوريات والسوريين قد قتلوا وملايين منهم ومنهن هُجِّروا ونزحوا داخل سورية أو إلى خارجها، إضافةً إلى تدمير ماديٍّ ومعنويٍّ هائلٍ طاول معظم مدنهم ومناطقهم وجماعاتهم. وقد لا يكون ضروريًّا شرح مدى استثنائية الحالة السورية الراهنة.

حالة الاستثناء العام انعكست على حياة كلّ سورية وسوري تقريبًا، بطرقٍ مختلفةٍ وبنسبٍ متفاوتةٍ. وعندما يروي أيّ إنسان سوري قصته يبدو واضحًا مدى "الاستثنائية" التي عاشها، ليس فقط بمعنى فرادة حياة كلّ سوري، بوصفه إنسانًا فحسب، بل أيضًا بمعنى أنه عاش في ظلّ وضعٍ غير طبيعيٍّ (بالمعنى السلبي للكلمة) أو ينبغي النظر إلى ذلك الوضع والتعامل معه على أنّه كذلك. ويحتاج السوريون، وغير السوريين، إلى مراجعة تفاصيل حيواتهم السابقة ومراجعة أحكامهم للتمييز بين ما هو استثنائي وشاذٌ ونشازٌ، من جهةٍ، وما هو عاديٌّ وطبيعيٌّ ومقبولٌ من جهةٍ ثانيةٍ. وينبغي للتمييز المذكور أن يتأسّس على وعي بأنّ الثنائيات المذكورة متداخلة الأطراف، نظريًّا وعمليًّا، وأن ما نعدّه طبيعيًّا هو كذلك من منظور ثقافةٍ ما، وأنّ حالة الاستثناء قد تفرض ذاتها علينا فنظنها أمرًا طبيعيًّا وقاعدةً، أو قد نصل إلى درجة الاعتقاد بأنها ينبغي أن تكون كذلك.

يعيش السوريون منذ عقودٍ طويلةٍ في حالة استثناء تخترق حيواتهم بكلّ تفاصيلها

وقد انتبه الفلاسفة كثيرًا إلى هذه المسألة، فبرغسون، على سبيل المثال بيَّن أن معنيي النظام والفوضى متضايفان بحيث يحدّد الواحد منهما الآخر: فالفوضى هي غيابٍ ما نعدّه نظامًا. وذهب دريدا إلى أبعد من ذلك فرأى أن لا معنى ولا وجود لمفهوم الطبيعة أو الطبيعي من دون وجود مفهوم الثقافة أو الثقافي، وأنه ينبغي الانتباه من تحويل تلك الثنائيات الوصفية إلى مثنويات معيارية، فما نظنه طبيعيًّا ليس إيجابيًّا ولا حتميًّا بالضرورة، وقد يكون ممكنًا، وربّما واجبًا رفضه والعمل على تغييره.

إنّ اعتيادنا على حالات الاستثناء وتطبيع علاقتنا بها ونظرتنا إليها وتعاملنا معها يمنعنا من إدراك لاطبيعية ولامعقولية (الكثير من مضامين) تلك الحالات. فقد نعتاد على طبيعية ضرب الوالدين للطفل، وحرمان النساء من المساواة الأخلاقية والحقوقية مع الرجال، واستبداد السلطة الحاكمة، واستثنائية الحالة السياسية والأمنية التي تحاول فرضها، وحالات الاستغلال الاقتصادي ... إلخ. وسأعطي، في ما يلي، مثالًا عن البعد الاقتصادي لحالة الاستثناء.

وفقًا للقيم العامة السائدة في حلب السورية، ينبغي للإنسان الحرفي أن يعمل 12 ساعة يوميًّا، على الأقل. وليس سيئًا أن يعمل "نصف نهار" في يوم الجمعة أيضًا. لكن من المستحب، وقد يكون من الواجب والضروري أن يعمل الحرفي ساعات إضافيةٍ، في حالات الطوارئ، التي ليس لها حد أو ضابط، ولا تتدخل الدولة أو القوانين لحماية الحرفيين من أرباب العمل (ومن أنفسهم). وأنا، شخصيًّا، عملت لسنين طويلة في ظلّ هذه القيم (الحلبية). وخلال عملي، نجارًا أو بسطاتيًّا أو خضرجيًا أو أعمال أخرى متنوعةٍ، كنت أضطر إلى أن أنام خارج البيت، في الورشة، أو في مكان البسطة. وكانت تلك الحياة تبدو لي وللآخرين طبيعيةً، وكنت أتلقى التشجيع والتقدير الاجتماعي على ذلك. ولم أدرك، إدراكًا أظنّه كاملًا، لا معقولية تلك الحياة وسلبياتها الكثيرة والكبيرة إلا عندما سافرت إلى (فرنسا ومن ثم بريطانيا). ففي فرنسا كان عدد ساعات العمل مضبوطًا ومقدّسًا، وكان هناك إصرار اجتماعي وقانوني على ألا تزيد تلك الساعات عن 35 ساعة أسبوعيًّا.

فمن حق الإنسان ومن واجبه على نفسه وعائلته ومجتمعه أن يحظى بأوقات فراغٍ ليعيش "حياةً طبيعية". فحياة الحرفيين في حلب تفتقر إلى الكثير من السمات الضرورية للحياة (الاجتماعية) الطبيعية. وفي بريطانيا، كان الوضع مزيجًا بين الوضع الحلبي والوضع الفرنسي. فحين عملت عامل بناء هناك كان عقد العمل ينص على أنّ عدد ساعات عملي هي 56 ساعةً أسبوعيًّا؛ لكن كان ممكنًا ومستحسنًا في أحيانٍ كثيرةٍ أن تصل ساعات عملي الأسبوعية إلى سبعين أو ثمانين ساعة. والحاجة التي كانت تجبرني وتجبر غيري على ذلك ليست أم الاختراع (فحسب)، بل كانت أيضًا، وهي عمومًا، أم الذل والقبول بالحالات الاستثنائية التي تتحوّل إلى قاعدةٍ عامةٍ ومسألةً عاديةً. وفي ظلّ هذه الأجواء يمكن أن نفهم تحوّل العمل/ الشغل (المضني) من لعنة ينبغي تبريرها وتسويغها لقبولها في الأساطير القديمة إلى "صابونة الحياة، كما يقول أهالي حلب.

من حق الإنسان ومن واجبه على نفسه وعائلته ومجتمعه أن يحظى بأوقات فراغٍ ليعيش "حياةً طبيعية".

يمكن للرؤية الفلسفية أو الرؤية الإنسانية العامة أو للتثاقف والتعارف مع ثقافات وأفكار وقيم مختلفة أن يفتح عيوننا على إدراك أنه ليس نادرًا أن يكون النظام هو الفوضى أو أسوأ منها وأن يكون أو يصبح الاستثناء هو القاعدة الطبيعية والعادي (القانوني)، وأن يتلبّس الثقافي السلبي أو السيئ والممكن لباس الطبيعي الإيجابي والوجود الضروري. وكان ضروريًّا في أحيانٍ كثيرةٍ أشكلة البديهيات ونقد الأفكار والقيم السائدة ومراجعة الثنائيات وتجاوز المثنويات وإعادة النظر جذريًّا وثوريًّا في كلّ ذلك وغيره.

الفلسفة ابنة عصرها ومجتمعها بلا شك، لكنها، في أحيانٍ كثيرةٍ، ابنةٌ عاقةٌ أيضًا، أو ينبغي أن تكون كذلك، بمعنى أن ترفض تقبّل أو حتى قبول الكثير مما يراه الوالدان والمجتمع من ورائهما حقًّا وخيرًا وجمالًا. إذا كانت الدهشة هي صنو التفلسف والمحفّز الأكبر له، فإنّ العادة أو الاعتياد يقتلان الفلسفة ويجفّفان ينابيعها ويعاديانها، لأنها تقوم بالخروج عنها وعليها في كثيرٍ من الأحيان. ولهذا كان الاختلاف بين الفلاسفة مماثلًا، من حيث الوجود والوجوب الفلسفي، ومن حيث تكرار الحصول وشدّته، للاختلاف بين الفلاسفة وغيرهم. ومن حيث المبدأ، فإنني أرى في الاختلاف وقبوله وتقبّله غنى إنسانيًّا ورحمةً أخلاقيةً وضرورةً معرفيةً.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".