الإنكليز جذورهم بعثية

الإنكليز جذورهم بعثية

10 مارس 2022
+ الخط -

تشريق وتغريب (10)

- لعب الإنكليز، خلال الحرب العالمية الأولى، ألعاباً بهلوانية.

هذا ما قلتُه لصديقي أبو أحمد الذي اتصل بي من إدلب، بواتساب، وطلب مني استئناف الحديث الذي توسعنا فيه، خلال الاتصال السابق، عن إبراهيم هنانو، والثوار الذين أصروا على مواصلة الثورة على الفرنسيين بعده، وتحول قسمٌ منهم إلى قطّاع طرق، عُرفوا بلقب: جَتَا. وقال: 
- ما هي الألعاب التي لعبها الإنكليز؟

جرياً على عادتي في التشريق والتغريب، قلت: 
- قبل ثورة 2011، حينما كانت تأتي سيرة قيادي بعثي يلعب على عدد من الحبال، كنا نقول: الرفيق فلان يدوبل. "الدوبلة" كلمة مشتقة من اللغة الإنكليزية (Double)، يعني أن هذا الرفيق ولاؤه مزدوج، فإذا نشب خلاف بين مجموعتين بعثيتين، مثلاً، تجده متنقلاً بينهما جيئة وذهاباً، مثل مكوك الحائك، هامساً لكل من الفريقين بأنه معه في السراء والضراء، وقد يقوم بنقل أخبار، أو إخباريات، من أحد الفريقين إلى الآخر، وهذا ما يزيد من شدة الخلاف، وسعير الاقتتال بينهما. الإنكليز، في تلك الأيام، (دوبلوا) على الفرنسيين، إذ أعطوهم سورية خلال اتفاقية سايكس بيكو، و(دوبلوا) على "الشريف حسين بن علي" حينما أعطوه سورية نفسها، لتكون مملكة هاشمية!

- أيوه. فهمت.. وعندما كان لا بد لهم من أن يخونوا أحد الطرفين خانوا العرب!
- طبعاً، فالعرب هم الحلقة الأضعف. المهم، بعدما جاء فيصل بن الحسين، وأخذ سورية، وحكمها لمدة 22 شهراً، جاء الفرنسيون، بقيادة الجنرال غورو، لأخذ حصتهم.
- حلو جداً، تقصد أن الإنكليز (دوبلوا)، يعني فيهم عِرْق بعثي!
- نعم، أو ربما كان في البعثيين عِرْق إنكليزي!

سأتحدث معك يا أبو مرداس بصراحة. وأرجو ألا تزعل مني. ألا تلاحظ أنك تقدم صورة مشرقة للاحتلال الفرنسي؟

- طيب. تقول إن الجنرال غورو جاء إلى دمشق على رأس جيشه، في تموز 1920، لتنفيذ الاتفاقية، وماذا حصل بعد ذلك؟
- غورو أنذر الأمير فيصل بأن يخرج مع حكومته من سورية دون قتال، فلم يوافق فيصل، فأخرجوه بالقوة يوم 24 يوليه / تموز 1920، بعد معركة ميسلون التي قادها وزير حربية الحكومة الفيصلية، يوسف العظمة. أردت أن أقول لك إن أسباب ثورة هنانو كانت واضحة، وهي، في المقام الأول، الدفاع عن الدولة الفيصلية، باعتباره أحدَ أركانها.. فعندما يخطب (أو يبيض) علينا أحد المؤرخين قائلاً إن إبراهيم هنانو بطل، مغوار، أبيّ، استجاب لنداء الوطن والشرف والعرض، فهبّ كالأسد الهصور، للذود عن حياض الوطن.. يجب ألا نصدقه، لأن الخطابات، في العادة، تموّه الحقائق. وعلى فكرة، نحن لا نسيء إلى إبراهيم هنانو عندما نحاول توضيح طبيعة شخصيته، وأما الخطابة الإنشائية المضللة، فهي التي تسيء إليه.

- اسمح لي يا أبو مرداس بوقفة قصيرة. إذا كان هنانو قد أشعل ثورة للدفاع عن دولته، فماذا عن الآخرين الذين قاتلوا معه؟ 
- هذا السؤال في محله. الذين قاتلوا مع إبراهيم هنانو، وأبرزهم نجيب عويد، ويوسف السعدون، ومصطفى الحاج حسين، كانت لهم توجهات متباينة، يغلب عليها الطابع الديني، بمعنى أنهم حاربوا الفرنسيين لكونهم مسيحيين، وليس لأنهم غرباء عن سورية. أصلاً مفهوم المواطنة السورية لم يكن واضحاً في أذهان الناس في تلك الأيام، فلو كانوا يقاتلون (الغرباء) بشكل عام، لثاروا على العثمانيين (الغرباء) الذين حكموا هذه البلاد 400 سنة، وعلى الأمير فيصل، لأنه حجازي، وليس سورياً، يعني، في المحصلة، غريب.

- لست أدري إن كان تحليلك لهذه الأمور صحيحاً أو لا، مع أنه يبدو منطقياً. ولكن، أين الجَتَا..؟
- يا سيدي، إبراهيم هنانو، في لحظة فارقة من عمر ثورته التي كان قد مضى عليها أكثر من سنة، شَعَرَ بأنها ضعفت، لثلاثة أسباب رئيسية: أولها تَوَقُّف الإمدادات التي كانت تأتيه من تركيا، وثانيها، أنه فهم اللعبة الدولية، لأن الروس، بعد نجاح ثورتهم سنة 1917، نشروا الاتفاقية الإنكليزية الفرنسية المتعلقة بتقاسم المنطقة، أعني اتفاقية "سايكس بيكو".. وثالثها أن بعض الشكاوى وصلت إليه عن تصرفات غير منضبطة يقوم بها بعض الثوار الذين يقاتلون معه، فقرر التوقف، لأنه، وهو الشخص المحترم، لا يرضى بأن يقال إن ثورته تَسرق الشعب، أو تعتدي على الناس، فهذا إسفاف لا يليق به. المهم سافر هنانو إلى شرق الأردن في رحلة دراماتيكية، على ظهر حصانه (وليس في الطيارة اللي طارت في الليل - كما تقول الأغنية الشهيرة)، وكاد، خلال هربه، أن يقع في يد القوات الفرنسية.. ووصل إلى شرق الأردن، ثم سافر إلى فلسطين، وقبض عليه الإنكليز، وسلموه للفرنسيين الذين حاكموه، بعدما سمحوا له بتوكيل محام، والمحامي هو فتح الله صقال (مسيحي)، وحكمت عليه المحكمة بالبراءة من تهمة ارتكاب جرائم جنائية، واعتبرت ثورته وطنية، وأطلقت سراحه.

- سأتحدث معك يا أبو مرداس بصراحة. وأرجو ألا تزعل مني. ألا تلاحظ أنك تقدم صورة مشرقة للاحتلال الفرنسي؟
- الاحتلال، أو الاستعمار الفرنسي، أصبح الآن في ذمة التاريخ، فقد مضى عليه نحو قرن من الزمان. ولذلك يجدر بنا أن ننظر إليه بشيء من الموضوعية. نعم، محاكمة إبراهيم هنانو من قبل دولة الاحتلال الفرنسي، ثم تبرئته، وإطلاق سراحه، شيء جميل، بل ورائع. أقول ذلك دون خوف، أو وجل. وإذا كنت تماريني في ذلك، تفضل أعطني مثالاً واحداً من تاريخنا يُعَامَلُ فيه رجل شَكَّلَ جيشاً حارب به الغزاة، مثلما عاملت فرنسا إبراهيم هنانو. لا تفكر، ولا تصفن، فتاريخنا لن يسعفك بمثال. دعك من التاريخ القديم، وتعال إلى التاريخ المعاصر. ماذا فعلوا بحسني الزعيم بعد الانقلاب عليه؟ قتلوه. سامي الحناوي؟ قتلوه. أديب الشيشكلي لحق به واحد من أبناء مدينة السويداء إلى البرازيل، وقتله بعد عشر سنوات من مغادرته الحكم (1964). حافظ الأسد اغتال بعض خصومه، وأعدم بعضهم الآخر سراً، وجهراً، وفي حلب وحماة ارتكبت عصاباتُه مجازر قتل جماعية (رجال ونساء وأطفال). وبشار الأسد لم يشذّ عن سيرة والده الإجرامية، بل تفوق عليه، إذ قتل مليوناً وهجّر سبعة ملايين، والحبل على الجرار. هذا اسمه حكم وطني، حاشاك. الوضع في العراق أيام صدام لم يكن ليقلّ دموية وإجراماً عن حكم حافظ وابنه، بينما إبراهيم هنانو حوكم وبرئ سنة 1921، من قبل محكمة فرنسية (استعمارية)، وبقي يعيش في مدينة حلب، كأي مواطن عادي، إلى حين وفاته سنة 1935.

قال أبو أحمد: إذا كنت ستقدم لي تفاحة لآكلها، فأنا أريدها مقشرة. قل لي بالضبط، ما العبرة مما تقول؟
- العبرة: إذا كان في الاحتلال الفرنسي نقاط إيجابية، يجدر بنا أن نتعلمها. ألم يحن الوقت لنتعلم احترام حقوق الإنسان؟ وإلى متى سنبقى نُقْتَل بالجملة، وبالمفرق، وهكذا مجاناً؟

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...