الإمبريالية الحديثة والشركات متعدّدة الجنسيات
في العقود الأخيرة، تغيّرت أشكال الإمبريالية جذرياً، فلم يعد الاستعمار المباشر هو السمة المميّزة للهيمنة الاقتصادية والسياسية؛ بل أصبح النظام الدولي الجديد يتشكّل من هيمنة الشركات متعدّدة الجنسيات التي تشكّل القوّة الاقتصادية الأكبر في العالم. وهذه الشركات لا تقتصر على التوسّع في أسواق جديدة فحسب، بل تتدخّل مباشرةً في السياسات الاقتصادية والقرارات الحكومية، ما يعزّز من هيمنة القوى الكبرى على اقتصادات دول الجنوب، كما أصبح دورها أكثر وضوحاً من أيّ وقتٍ مضى في الإمبريالية الحديثة، إذ تمتلك القوّة التي تمكّنها من تحديد ملامح الاقتصاد العالمي.
تُعتبر الشركات متعدّدة الجنسيات اليوم القوّة الفعلية التي تدير الاقتصاد العالمي، فبدلاً من الاعتماد على الحكومات أو الأنظمة السياسية في تحديد المصالح الاقتصادية، أصبحت هذه الشركات هي من يحدّد الوجه الجديد للنظام الدولي. على سبيل المثال، الشركات الكبرى في مجال النفط مثل "إكسون موبيل" و"شيفرون"، وفي مجال التكنولوجيا "غوغل" و"آبل"، والمال "بلاك روك"...، تمتلك قدرة هائلة على التأثير في السياسات الداخلية والخارجية لدول عديدة، وهي شركات تعزّز استمرارية الهيمنة الاقتصادية للدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، التي تتحكّم على نحوٍ غير مباشر في دول العالم من خلال الاتفاقيات التجارية التي تصبّ في مصلحتها.
هذا النموذج الجديد للإمبريالية يتجسّد في كيفيّة استغلال الشركات متعدّدة الجنسيات للموارد الطبيعية في دول الجنوب، من دون أن تعود تلك الموارد بالفائدة على شعوب تلك الدول، فمن خلال اتفاقيات تجارية غير متكافئة، تتمكّن هذه الشركات من استخراج الموارد بأسعار منخفضة للغاية، في حين يجري تهميش حقوق العمال والسكان المحليين...، هذا النموذج يعزّز من استمرارية الفقر والتهميش في الكثير من دول العالم الثالث، ويؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاقتصادية بين الشمال والجنوب.
تساهم الإمبريالية الحديثة، من خلال هيمنة الشركات متعدّدة الجنسيات والنظام المالي الدولي، في إعادة إنتاج الاستغلال والتهميش على نطاق عالمي
لكن الإمبريالية الحديثة لا تقتصر على الاستغلال الاقتصادي فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى التأثير في السياسات الوطنية من خلال ما يُعرف "بالتدخّلات غير المباشرة"، إذ تضغط هذه الشركات على الحكومات في دول الجنوب لإجراء إصلاحات اقتصادية تتماشى مع مصالحها، ففي بعض الحالات يجري استخدام العقوبات الاقتصادية أو الحروب التجارية لفرض شروط اقتصادية محدّدة، ما يؤدي إلى انهيار الاقتصادات المحلية وتدمير الصناعات الوطنية.
من جهةٍ أخرى، لا يمكن تجاهل دور المؤسّسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هذه العملية، فقد أصبح من المعروف أنّ هذه المؤسسات تقدّم قروضاً للدول النامية بشروط قاسية، تشمل التقشّف الاقتصادي وخصخصة القطاعات العامة، ما يفتح المجال أمام الشركات متعدّدة الجنسيات للهيمنة على الأسواق المحلية، وبالتالي فالإمبريالية الحديثة لا تقتصر على الدول الكبرى وحدها، بل تشمل أيضاً المؤسّسات المالية التي تشارك في السيطرة على النظام المالي العالمي.
لا تقتصر الإمبريالية الحديثة على الاستغلال الاقتصادي، بل تتجاوز ذلك إلى التأثير في السياسات الوطنية
الجانب الآخر في هذه الإمبريالية الحديثة هو استخدام التقنيات الحديثة، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أدواتٍ لتحقيق السيطرة الثقافية، فشركات التكنولوجيا الكبرى، مثل "فيسبوك" و"إكس" و"أمازون"...، تساهم في تصدير نمط حياة وقيم ثقافية تُفضي إلى تعزيز النموذج الاستهلاكي الرأسمالي، هذه الهيمنة الثقافية تساهم في تشكيل وعي شعوب العالم، خصوصاً في الدول النامية، بما يتماشى مع مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى.
لكن السؤال يبقى: هل يمكن التغلّب على هذه الهيمنة؟، والجواب يكمن في تشكيل حركات عالمية مناهضة لهذا النظام، تُركّز على تقوية السيادة الاقتصادية والسياسية للدول النامية، كما يجب أن تكون هذه الحركات قادرة على تحدي الشركات متعدّدة الجنسيات ومؤسّسات التمويل الدولية، والضغط من أجل تحسين الأنظمة الاقتصادية المحلية التي تضع مصلحة المواطنين فوق مصلحة الشركات العالمية.
في الختام، يمكن القول إنّ الإمبريالية الحديثة، من خلال هيمنة الشركات متعدّدة الجنسيات والنظام المالي الدولي، تسهم في إعادة إنتاج الاستغلال والتهميش على نطاق عالمي، فلم يعد الاستعمار كما كان في القرن التاسع عشر، لكنه تحوّل إلى شكل أكثر تعقيداً، يتسم بتأثير الشركات الكبرى في السياسات الاقتصادية والثقافية، ما يهدّد بتوسيع الفجوة بين الشمال والجنوب، ويعزّز من عدم المساواة في النظام الدولي.