الإبادة الجماعية: تبرير ما لا يبرّر

22 مارس 2025
+ الخط -

نشر المؤرّخ والفيلسوف الإسرائيلي يوفال نوح هراري، يوم 15 مارس/ آذار 2024، مقالًا في موقع "فاينانشال تايمز" بعنوان "هل هناك طريق للخروج من المأزق الإسرائيلي-الفلسطيني؟"، يقول فيه: "الرغبة الإسرائيلية في إزالة التهديد الوجودي الفلسطيني تشكل تهديدًا وجوديًا للفلسطينيين".

ويضيف في المقال نفسه: "في كل مرة يهتف المتظاهرون في لندن أو نيويورك بشعار: "من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر" (From the river to the sea, Palestine will be free)، يستنتج الإسرائيليون أن "هؤلاء يريدون حقًا إبادتنا". بالطبع، لا تمتلك حماس بمفردها القدرات العسكرية الكافية لهزيمة إسرائيل وتدميرها، لكن الحرب أظهرت أنّ تحالفًا من القوى الإقليمية القوية التي تدعمها، بما في ذلك حزب الله والحوثيون وإيران، يشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل".

إنّ الإنسان الذي يعتقد أنّه معرّض للخطر بسبب الآخرين، "أخطر من أي "حيوان"، كما أن أسلحته أشد فتكًا من كل ما قد يُطلق عليه الأسلحة الحيوانية الطبيعية"، حسب تعبير الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز. أمّا كارل شميت، وهو سليل فكر هوبز، فيلاحظ أنّ الأسلحة الفوق-عادية تفترض وجود إنسان فوق-عادي، وهي لا تفترض وجوده نظريًا فحسب، بل تفترضه كحقيقة قائمة بالفعل. وفقًا لهذا التصوّر: لا يكمن الخطر المطلق في وجود وسائل الإبادة وفي الخِسَّة الإنسانية المتعمدة، بل إنّ الخطر يكمن في حتمية الإكراه الأخلاقي.

من يستحق الحياة؟ من يستحق الإبادة؟ 

إنّ البشر الذين يستخدمون هذه الوسائل التدميرية ضدّ بشر آخرين، يرون أنفسهم ملتزمين بإبادة ضحاياهم ومكرَهين عليها، حتى على الصعيد الأخلاقي. يمكننا أن نرى أمثلة على هذا المنطق في التصريحات السياسية؛ يقول بنيامين نتنياهو: "نقاتل من أجل ضمان مستقبلنا أمام وحوش نهضت لإبادتنا." وفي سياق مختلف، يقول أدولف هتلر: "عالمان يواجهان بعضهما البعض - رجال الله ورجال الشيطان! اليهودي هو المعادي للإنسان، مخلوق إله آخر، لا بد أنه جاء من جذر آخر للجنس البشري... لا يعني ذلك أنني سأسمي اليهودي وحشًا، إنه أبعد بكثير عن الوحوش منا نحن الآريين. إنه مخلوق خارج الطبيعة وغريب عنها."

أما وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، فقد صرّح في اليوم الثالث من العدوان على قطاع غزّة قائلًا: "إسرائيل تفرض حصارًا كاملًا على مدينة غزة: لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك."

الخوف ملازم للإسرائيليين لأنهم يعلمون أنّ وجودهم غير مشروع وغير مقبول

يمكن أن الجناة مُكرهون على نعت العدو (الضحية) بالإجرام والتوحّش، ومُكرهون على الإعلان أنه بلا قيمة تمامًا، وإلا أصبحوا هم المجرمين والوحوش. هكذا، يصبح منطق القيمة واللا قيمة آلية تُنتج عواقب إبادية، ويفرض أكثر من أيّ وقت مضى تمييزًا تجريميًا وحطًّا من قيمة الآخر، وصولًا إلى إبادة كلّ ما هو غير جدير بالحياة.

تبرير ما لا يقبل التبرير

تندرج الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بموافقة ودعم الغرب، ضدّ الشعب الفلسطيني، ضمن ما يسميه بول ريكور في كتابه "الذاكرة، التاريخ، والنسيان" بـ"الذنب الإجرامي" وهو عمل غير قابل للتقادم. تبرز مسألة عدم القابلية للتقادم لأنّ التقادم، كقاعدة قانونية، يُمنح لجميع الجنح والجرائم من دون استثناء، وإن كانت مدة مرور الزمن تختلف وفقًا لطبيعة الجريمة.

إنّ الحجّة الأولى لعدم تقادم الإبادة الجماعية هو فظاعة الجرائم، إذ إنّ شدّتها تبرّر ملاحقة المجرمين من دون أيّ حدٍّ زمني. هذه الحجّة القوية تواجه الطرح القائل بإنّ الانتقام العام يتلاشى تلقائيًا بفعل الزمن، وهو ادعاء يفتقر إلى التماسك المنطقي. أما الحجة الثانية، فهو أنّ ملاحقة المجرمين ضرورية لأنّ المحاكمات السريعة مستحيلة، نظرًا لأنّ الجناة غالبًا ما يكونون ماهرين في التهرّب من العدالة.

لو نظرنا إلى الجرائم المُرتكبة، والتي تُرتكب في حقِّ الشعب الفلسطيني، تلك الفظائع التي تتجاوز حدود الإنسانية وتمسّ المجال ما فوق الإنساني، يمكن القول بإنها تندرج ضمن ما لا يقبل التكفير، ولا يقبل جبر الضرر، ولا يمكن محوه، ولا رجعة فيه، ولا يُنسى، ولا يُلغى أو يُنقض. لا يُعقل، لا يتصوّر، لا يتوهم، لا يُفهم، لا يوصف، بلا اسم... .