الأقلية المقاومة: حدود الدور وحقيقة المسؤوليّة
بدا الأمر محسومًا في أوّل النّظر، ذلك الذي نكتشف مدى سطحيّته أو وقاحة الظنّ به حين نخطو فيه ما بعد الخطو الأوّل، لعلّها خطيئةُ الإنسان الأوّل: أن يثق في معرفته، من دون أن يعرف، حتى يصفعه واقع جهله، قد لا يكفي أن تكون الأقليّة محقّة في نيّاتها، بل وجبت مساءلتها في وسيلتها كذلك. من هنا تثورُ المسألة، باعتبار أنّ "الحكم الأخلاقي" لا يُقاس بصوابيّة الاتجاه وحدها، بل بكيفية إدارة الفعل وتوزيع تكلفته.
إذ يرى بعض الفلاسفة أنّ الحقّ الذي لا يَسمع صوت مشاركيه في التبعة، يُشبه من يُحاربُ ولو كان نبيلاً في غايته وانحيازه، وفي حدود ما نعرفُ، لا يمكن الفحص عند الفلاسفة المؤسِّسين (المؤسسين عندي أقصد) من دون الانتباه إلى موضع خطابهم من السلطة ذاتها باعتبارها المقصود بالتحليل والنقد غالبًا؛ فبينما يحذّرُ الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، من الخطاب الذي يصنع شرعيّة بلا مساءلة، والناقد والمفكر إدوارد سعيد من التمثيل الناطق باسم الجماعة من دون تفويض، ينصفنا الفيلسوف فرانز فانون (عن المقاومة وأنا بصفتي واحدًا من جمهورها) بتصوّره عن "جحيم العنف" الذي يمرّ به التحرّر من الاستعمار، باعتباره اللغة الوحيدة التي يفهمها المستعمِر.
**
الكمال وهمٌ من أوهام المتفرجين، والمقاومة (بصفته فعلاً بشريّاً طارئاً ضاغطاً ومرتبكاً) ليست فعلًا كاملًا، ولا يُطلب منها ذلك في مواجهة الهمجية الاستعمارية، من دون أن يبرّر لهم ذلك ما يناقض المنهج أو يصطدم بالمبادئ، فالشرعية (في هذا الموضع) هي المحك: شرعية تستند إلى وعي الشعب، لا إلى صمته أو إكراهه، أو القفزِ على إرادته بفوقيّة نرجسيّة تدّعي حصريّة التمثيل من دون امتلاك هذا الحق/الالتزم.
الشرعية، أية شرعية، هي من تستند إلى وعي الشعب، لا إلى صمته أو إكراهه، أو القفزِ على إرادته
يُبرّر فرانز فانون العنف بوصفه أداة تحرّر، ويسمحُ للأقليّة الثورية بالحقّ في اتخاذ القرار وتنفيذه ما دام يضمن المستقبل ولو على حساب الحاضر أو تقديمًا له بوصفها كلفةً مؤقّتة لكن مستحقّة، لكن فوكو وسعيد يُذكّران بضرورة مساءلة الخطاب والتمثيل تمامًا كما نُسائل السلطة، بينما يُضيف غرامشي أنّ الشرعية تُبنى عبر هيمنة ثقافية حوارية وهو جوهر القيادة عنده.
والتباين في آراء معتبرة كهذه يزيد الأمر التباسًا ولا يوصلُ إلى برٍّ ولو نظريّ، لكنّ حدوديّة النقاش النظري تمنح الأمر وقاحةً ليست للفاعلين بالضرورة؛ في النهاية، المقاومة الفلسطينية، رغم الخلل البنيوي في التمثيل بشأن قرارها الأخير وتبعاته، هي في الأصل تستمدّ شرعيتها من الوعي الجماعي، كما تتبع ذلك بتمثيلٍ أصيلٍ وثابت في المسار، والخلافُ بحسب ما أفهم محصورٌ على مستوى القرار ومصيريّة تبعاته وحجم آلامه، لكن رغم ذلك ليست المقاومة، في ظلّ غياب الديمقراطية الإجرائية، بفعل الاحتلال وآلة القتل اللانهائية والحصار والانقسام، مجرّدَ حق، بل ضرورة وجودية.
وإذا كانت قلّة الآن تطالب بفرض إنهاء الحرب بأيّ ثمن، ولو كان الاستسلام والطرد، فإنّ هؤلاء هم ذاتهم الذين يلومون "القلّة المقاومة" (إذا صحّ اعتبارهم قلّة) على اتخاذ القرار من دون الرجوع إليهم. ليس الالتباس حول الحقّ في المقاومة، بل في الحقّ في التمثيل. هكذا فهمتُ الأمر، إذ إنّ المبدأ متّفقٌ عليه من غالب الشعب الفلسطيني في غزّة، وفي حدود ما جرى من استطلاعات، كانت للمقاومةِ (على اختلاف تنظيماتها) الغلبة فيها.
المقاومة، في ظل غياب الديمقراطية الإجرائية، بفعل الاحتلال وآلة القتل اللانهائية والحصار والانقسام، ليست مجرد حق، بل ضرورة وجودية
من خدعت المقاومة؟ العدو أم شعبها؟
ربّما تحقّق ما تصوّره غرامشي حول القيادة الحقّة، باعتبارها هيمنة ثقافيّة تُبنى بالوعي المشترك والحوار، لا قرار فوقيّ أو اختطافٍ باسم الأمل، غير أنّ هذا لا ينفي لحظة الإكراه الضروري حين يُصبح التراجع نقيضًا للوجود ذاته، وما دامت المقاومة تعي تبعاتها، وتستبطن مسؤوليّة قرارها، وتستمدّ شرعيّتها من وعي الناس بها لا من صمتهم، وقبل ذلك كلّه أو معه تشاركهم التبعة بشجاعة؛ فإنّ فعلها مشروع، حتى لو دفع الجميع ثمنه، إذ لا يُعقلُ أن يتنازل البعضُ (بغضّ النظر عن نسبتهم) عن كلّ ما يعتقدون فيه، ويسلّمون للعدوّ ويمتنعون عن القيام بما يعتقدون في حتميّته وقدسيّته، لأنّ الآخرين يرفضون. ومن باب أولى أن يرفض هؤلاء الثوّار/ المقاومون فرضَ قرار الأغلبيّة عليهم، لتأثيره بهذه الدرجة على مصيرهم ووجودهم كما على كرامتهم وقناعاتهم.
وإذا كانت المقاومةُ أقنعت العدوّ فيما قبل السابع من أكتوبر أنّها تجنحُ لسلامٍ طويل الأمد، ينفتح فيه باب الاستثمار والرفاه للشعب الفلسطيني بغزّة وتستقرّ فيه الأمور بقدرٍ هناك، فلا يعني هذا أكثر من خداعٍ للعدو، أمّا الشعب فقيل له صراحةً وطوال الوقت إنّ المعركة قادمة وإنّ التحرير قادم وإنّ العمليّة التي ستقتحمُ فيها الحدود ويُجبرُ فيها العدوّ على التفاوض بعد انتزاع أوراق الضغط ستكون، إلى آخر هذا الطابور من الدلالات، لكن ما الذي وجب على المقاومة فعله لتكون "ديمقراطيّة"، رغم أنّها لم تدّعِ ذلك في أيّ مرحلة؟
لا ينفكّ ذهني عن التساؤل: إذا كنّا سنلوم المقاومة على ما جرى بعد السابع من أكتوبر من رعبٍ، أليس من الأولى لوم 25 يناير على التهليك المُتتابع للبلد، وللقضايا كلّها الذي جرى بعدها؟ أم أنّ الأولى، والأوجه هو الوعي بحقيقة المسؤوليّة عن الكلفة، وتغيير موقع السؤال واجباً: هل كانت تلك الجماعة تعيش حياتها من دون كلفة استنزافية قبل الفعل المقاوم (ذروة تجليه تحديدًا)؟ ألم يكن الإخراس اليوميّ التجويع والإذلال والحصار والتقتيل والأسر، هي أشكال مختلفة للإبادة الصامتة، وربّما المهينة؟
ألم تكن تلك التجسدات الأخيرة، والتي ناقشنا في المقال السابق من حيث كونها انتحارًا أم مجازفة محسوبة، شديدة الواقعية، ذروة منطق الضرورة كما هي ذروة الفعل المقاوم، كما أنّها خلاصة التجربة التاريخيّة التي لا يمكن محاكمتها بأدوات أخلاقيّة مجرّدة، إلا من قبل المتحاذقين والجمهرة النرجسيّة؟
قد يُطلب من الثورة أن تكون كاملة في عدلها وتدبيرها وأدواتها، لكنّ الكمال هذا، في وجه الهمجيّة العارية، ليس من شروط الحكم، بل من أوهام المتفرّجين.