الأسلحة السينمائية الفاسدة (8)

الأسلحة السينمائية الفاسدة (8)

21 سبتمبر 2021
+ الخط -

برغم النجاح الجماهيري لفيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) الا إنه لم يسلم من انتقادات العديد من النقاد الذين رأوا برغم مواقفهم المناصرة للحق الفلسطيني ومعارضتهم للتطبيع، أن هذا المشهد لا يتسق مع الفن السينمائي وأن الغرض منه هو اللعب على عواطف الجمهور واستثارته، من هذه الآراء نذكر رأي الناقد السينمائي محسن ويفي الذي قال في حوار له مع المخرج الكبير توفيق صالح إن مشهد حرق العلم الإسرائيلي في الفيلم كان تزيدا خارجا عن السياق السينمائي وزرعا مهجنا في الفيلم، وكانت المفاجأة أن توفيق صالح الذي ينتمي لجيل آخر ومدرسة أخرى في فن السينما رد بقوة على كلام محسن ويفي قائلاً إن "الفيلم في النهاية يكشف عن وعي كبير بالوطن وبارتباط شخصيات الفيلم بهذا الوطن، فحرق العلم الإسرائيلي في الفيلم موقف وطني لم يحدث قبل ذلك في فيلم كوميدي، كما أن السرد في الفيلم زرع إمكانية قبول هذا المشهد داخل سياقه من خلال تلك الشخصية اليسارية التي تقوم بنشاط اسرائيلي توزع منشورات".

حين طلبت من الناقد أحمد يوسف التعليق على هذا الجدال قال لي: "الناقد لا يعلن حكم محكمة، من وجهة نظري انتقدت المشهد لكني لا أرفضه لأن هناك مستويات عديدة من القراءة والتذوق، وفي هذا المشهد تصفيق الجمهور له دلالة شديدة وكان مؤشرا على أن الجمهور يرفض اسرائيل والتطبيع معها"، وهو ما اتفق معه الكاتب الكبير وحيد حامد الذي قال لي: "أحيانا تكون المباشرة مطلوبة وهذا ينطبق على حالة حرق العلم، لأن حرق علم اسرائيل لا يحتاج الى مبررات درامية، وباستثناء دعاة التطبيع ففي داخل كل المصريين رغبة ليس في حرق علم اسرائيل بل في حرق اسرائيل ذاتها".

أما محمد هنيدي بطل الفيلم فقد دافع عن المشهد منفعلاً في حوار أجريته معه عقب عرض الفيلم ونشرته في مجلة (الكواكب) قائلاً: "أنا نفسي اللي يقول إننا بنغازل مشاعر الناس يشوف الفيلم كويس وهيلاقي أن المشهد مش مقحم على السيناريو، أنا لو عايز أغازل مشاعر الناس طب ما أنزل ميدان التحرير وأحرق العلم، وأنا متأكد أن أي مصري كان هيعمل اللي عمله بطل الفيلم أنا شخصيا من جيل وعي على حرب 73 صحيح كنت صغير بس عشت حالتها وحضرت معاهدة السلام وفشل السلام وحضرت صبرا وشاتيلا وسليمان خاطر وشاركت في مظاهرات الجامعة وحضرت قانا ولا انسى بحر البقر، أنا مش سياسي أو ثوري ومش عايز أنصب نفسي زعيما أنا عملت ده بإحساسي كمواطن مصري وخلاص".

في فيلم هنيدي التالي (همام في أمستردام) من إنتاج عام 99 وضمن تصويره لقصة شاب مصري يكافح لتحقيق ذاته في هولندا، يحكي المؤلف مدحت العدل والمخرج سعيد حامد عن محاولات شخص اسرائيلي التقرب الى همام أثناء زمالتهما في العمل وعندما يرفض همام هذا التقارب، يقرر الإسرائيلي الذي لا يحدد الفيلم سبب وجوده في هولندا بدلاً من وجوده في إسرائيل، أن يتفرغ لمحاربة همام ومحاولة القضاء عليه بشتى الطرق، لكن همام ينجح في التغلب على هذه الحرب ويصبح مليونيرا وصاحب سلسلة مطاعم في هولندا، وفي حين اعتبر العديد من النقاد أن هذه القصة جاءت مقحمة على الفيلم لمحاولة استثمار نجاح (صعيدي في الجامعة الأمريكية) قال المؤلف مدحت العدل إن هذه القصة لها سند من الواقع وأنها قصة حقيقية وأن كل من زار هولندا يعلم مدى تأثير الصهاينة ونفوذهم هناك.

لم يكن نجاح (همام في أمستردام) على نفس قدر نجاح (صعيدي في الجامعة الأمريكية) حيث تراجعت إيراداته عدة ملايين عن الفيلم السابق وهو ما اعتبره المقربون من هنيدي عدم اقتناع من الجمهور بتخلي هنيدي عن دور المضحك "لكي يقوم بلعب أدوار سياسية أكبر منه"، وقد سمعت هذا بنفسي يقال لهنيدي من منتجين وأصدقاء له، وبدا لي أن هنيدي يفكر في هذا الكلام جدياً، وأعتقد أنه كان سبب قراره أن يقوم في فيلمه التالي (بلية ودماغه العالية) من إنتاج عام 2000 مع المؤلف مدحت العدل والمخرج نادر جلال بعدم ذكر اسرائيل نهائيا والابتعاد عن السياسة مطلقا، لكن هذا لم يؤدي لتقدم ايرادات هنيدي بل تراجعت أكثر وبشكل دفع هنيدي للقلق.

في عام 2002 عاد مدحت العدل للحديث مجددا عن إسرائيل من خلال قالب سينما الجاسوسية، حين قدم فيلم (مافيا) الذي أخرجه شريف عرفة

بعدها ومع اشتداد أحداث الانتفاضة الفلسطينية واتساع نطاق العمليات الفدائية داخل إسرائيل، قام محمد هنيدي في فيلمه التالي (جاءنا البيان التالي) من إنتاج عام 2001 مع مؤلف آخر هو محمد أمين والمخرج سعيد حامد بالإشارة الى الانتفاضة الفلسطينية من خلال قصة مذيع شاب يسافر الى اسرائيل لتغطية الانتفاضة، ودارت في الكواليس معركة بين هنيدي ومدحت العدل الذي بدأ وقتها مع المطرب مصطفى قمر والمخرج علي إدريس في تصوير فيلم بعنوان (أصحاب ولّا بيزنس) يحكي قصة مذيع مصري عابث يتغير الى شاب جاد عندما يسافر الى اسرائيل لتغطية الانتفاضة ويشهد تنفيذ عملية استشهادية ينفذها الشاب الفلسطيني المرافق لطاقم التصوير ويعود الشاب المصري الى مصر ليذيع تفاصيل العملية للناس، واتهم هنيدي طاقم فيلم مدحت العدل بتعمد حرق فيلمه الذي يدور أيضاً داخل كواليس قناة فضائية، وزاد في تعقيد الأزمة أن الفيلمين كانا من إنتاج شركة واحدة هي العدل جروب وتم حل الأزمة بإبقاء الوضع على ما هو عليه خاصة أن مشهد الانتفاضة في فيلم هنيدي كان صغيراً للغاية، بعكس الفيلم الآخر الذي كان معتمدا في أحداثه وتطورها على تغطية المذيع للانتفاضة الفلسطينية.

عند عرض الفيلمين في وقت متزامن حقق فيلم هنيدي ايرادات قدرها 21 مليون جنيه بينما حقق فيلم مصطفى قمر ايرادات قدرها 5 ملايين جنيه وهو ما اعتبر نجاحا فائقا لمصطفى قمر الذي لم تصل إيرادات أفلامه إلى هذا الرقم من قبل، وأطلق فيلم (أصحاب ولّا بيزنس) نجومية الممثل عمرو واكد الذي لمع في دور الاستشهادي الفلسطيني جهاد لدرجة أن البعض لا زال حتى الآن يصر على كونه فلسطينياً، وبرغم أن المستوى الفني للفيلم جاء متذبذباً بسبب تفككه إلى نصفين الأول به محاولات لصنع فيلم كوميدي غنائي رومانسي بشكل لا جديد فيه سوى تقديم أحداثه في كواليس قناة فضائية، والثاني به تحول وطني للمذيع الذي ينبهر بالانتفاضة الفلسطينية فيعود ليفضح رؤساءه في المحطة التلفزيونية الخاصة التي تنشر التفاهة من خلال برامجها المختلفة، الا أن الفيلم حصل على ردة فعل إيجابية وسط الجمهور بوصفه أول فيلم يعكس ظاهرة العمليات الفدائية التي تلاقي تعاطف المصريين وتقديرهم.

في عام 2002 عاد مدحت العدل للحديث مجددا عن إسرائيل من خلال قالب سينما الجاسوسية، حين قدم فيلم (مافيا) الذي أخرجه شريف عرفة والذي يحكي قصة شاب مصري منحرف السلوك وكاره لمصر تجنده المخابرات المصرية لتزرعه في قلب شبكة عصابية من المافيا يأتي أحد زعمائها الى مصر لتنفيذ عملية لاغتيال البابا يوحنا بولس الثاني الذي يزور مصر وذلك للتأثير على سمعة مصر وضرب استقرارها ويتضح في نهاية الفيلم أن المستفيد من هذه العملية والذي يمولها ليس سوى اسرائيل التي تستخدم رجل المافيا قوي البنية والذي يتحدث العربية بطلاقة لتنفيذ هذه المهمة، وبالطبع تم تقديم الفيلم بعد الحصول على موافقة من جهاز المخابرات العامة الذي تشترط الرقابة موافقته على أي عمل يشير إليه من قريب أو من بعيد، وحقق الفيلم نجاحاً جماهيرياً ساعد على تكريس نجومية الممثل الشاب أحمد السقا الذي كان قد قام في فيلمه السابق (شورت وفانلة وكاب) من تأليف مدحت العدل وإخراج سعيد حامد، بالتطرق بشكل رآه الكثيرون مقحماً على السيناريو الرومانسي إلى قضية الوحدة العربية والخلافات العربية على مستوى القمة والتي تعيق وحدة الشعوب وتهدد قصة حب البطل والبطلة.

حين سألت مدحت العدل عن الاتهام الموجه إليه من النقاد بقيامه باستثمار الأحداث الوطنية لوضعها في قالب تجاري لمغازلة الجماهير دون بذل أي مجهود لتعميق المستوى الفكري والفني لأفلامه، رد مدحت العدل قائلاً: "مواجهة اسرائيل أمر حيوي ومهم ولابد أن نتعرض له ونتوقف عن التعامل معه بالتجاهل، أنا مؤمن أن أي أزمة في مصر سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ارهابية لابد أن تكون اسرائيل جزءا من وجودها، وإذا كان حرق العلم في صعيدي قد فتح الباب لمجموعة من الأفلام بعدها فأهلا وسهلا، لكن الذكاء هو كيف نصنع فنا يدين اسرائيل بشكل يصل للناس ويحبونه فيستمتعون ويدركون المشكلة، اسرائيل بدورها والصهاينة ينتجون أفلاما تدين العرب منها ما يذهب الى مزبلة التاريخ ومنها ما ينجح ويكسّر السينمات في العالم كله، الفرق بين تناولنا وتناولهم يعكس الفرق بيننا وبينهم سينمائيا، هم يدركون أهمية تأثير الفن على العالم، إحنا للأسف لم نكن نحس بأهمية السينما كويس، ستجد صحيح معالجات جيدة ومعالجات فجة لكن لازم نفتح الباب للكل وضروري كصناع سينما نحط اسرائيل في دماغنا وأنا شخصيا ككاتب سيناريو وكمنتج من خلال شركة العدل جروب ناوي أعمل ده كلما قدرت".

...

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.