الأسلحة السينمائية الفاسدة (3)

الأسلحة السينمائية الفاسدة (3)

14 سبتمبر 2021
+ الخط -

المثير للسخرية أن فيلم (فتاة من إسرائيل) الذي انتقده بعض النقاد لتقديمه خطابة سياسية زاعقة تصل الى حد العنصرية ضد اليهود وليس ضد إسرائيل كدولة، كان قد تم رفضه في أول مرة تقدم فيها إلى الرقابة لأن "رؤيته السياسية مشوشة وغائمة وتخدم التطبيع" طبقاً لنص التقرير الرقابي، الذي كشف لي عنه الناقد السينمائي علي أبو شادي رئيس الرقابة على المصنفات الفنية وقت نزول الفيلم والذي كان قبل تولي منصبه عضوا بالمجلس الأعلى للرقابة بصفته ناقداً كبيراً، وقد أشرت إلى التقرير في التحقيق الذي نشرته وقتها في مجلة (المصور)، حتى أن عضواً بالمجلس الأعلى للرقابة لا غبار على وطنيته وقيمته الثقافية هو المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق قال في تقريـره الرسمي عن الفيلم: "هذا فيلم ترحب إسرائيل بإنتاجه"، وبعدها تم رفض الفيلم بأغلبية ساحقة من أعضاء اللجنة لأنه في رأيهم حافل بأخطاء درامية وسياسية تخدم إسرائيل ولكن بنية حسنة من صانعيه.

قررت الشركة المنتجة للفيلم حل الأزمة بالعمل على تغيير السيناريو الذي أصبح فريق الكتابة فيه مكوناً من المخرج إيهاب راضي وكاتبي السيناريو المخضرمين مصطفى محرم ورفيق الصبان، وعندما جاء علي أبو شادي ليتولى منصب الرقيب على المصنفات الفنية كان قد تم تغيير السيناريو وتقديمه رسمياً إليه ولم تتم الموافقة على السيناريو للمرة الثانية ولنفس الأسباب، لتبدأ رحلة جديدة من التعديلات استمرت سنة كاملة، ظل فيها المنتج محمد راضي يتقدم بالسيناريو المعدل إلى علي أبو شادي بصفة شخصية لقراءة السيناريو المعدل ثم تعديله حتى الوصول لآخر صياغة وافق عليها أبو شادي لأنه كما صرح لي: "تفهمت دوافع المنتج والمخرج في تقديم العمل بحسن نية".

لكن المخرج إيهاب راضي نفى لي أن الفيلم تعرض للرفض الرقابي قبل ذلك لأسباب تتعلق بأفكاره وطريقة كتابه وقال: " السيناريو كان مرفوض رقابيا في فترة لم يكن فيها رقيب محدد بعد رحيل الدكتورة درية شرف الدين عن منصبها ولما جاء الأستاذ علي أبو شادي بعثنا السيناريو واتوافق عليه فورا، ولأول مرة أقول لك إن الفيلم تمت الموافقة عليه قبل ذلك بخاتم الرقابة لكن بعد مرور سنة من الموافقة ذهبنا لنجددها ففوجئنا بالاعتراض على السيناريو، صحيح أن السيناريو الأول كان مختلفا جدا لكن نوعية الاختلاف هذه تكمن في أن السيناريو النهائي أقوى بكثير جدا، وبالتأكيد مرور السنوات المختلفة يدعو دائما لتجديد الرؤية"، وحين عدت إلى علي أبو شادي لأسأله عن تعليقه على هذا الكلام، اختار ألا يرد بصفته الرقابية بشكل مباشر، وقال لي إن تقارير المجلس الأعلى للرقابة موجودة لمن يحب أن يتأكد، ثم أضاف قائلاً: "رأيي كناقد وليس كرقيب أن فيلم إيهاب راضي في مجمله رفض للتطبيع لكنه رفض غير مؤصل وغير مدرك جيدا لحقائق الصراع مع إسرائيل، ولذلك جاء الفيلم هشا وضعيفا فكريا برغم النيات الطيبة".

كان اهتمام السينما المصرية بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي قد بدأ عقب اندلاع حرب 1948 وهزيمة الجيوش العربية فيها، وكان من أشهر الأفلام التي استلهمت هذه الحرب فيلم (فتاة من فلسطين)

الغريب أن كل ما كتبه النقاد والمهتمون بالصراع العربي الإسرائيلي عن سطحية الرؤية التي قدمها فيلم (فتاة من إسرائيل) الذي حمل اسم كاتبين كبيرين مثل مصطفى محرم ورفيق الصبان، كان شبيهاً بما كُتب عن فيلم آخر اسمه (إمبراطورية الشر) عرض في نفس الفترة تقريباً مع أنه أُنتج قبل (فتاة من إسرائيل) بفترة قصيرة، وقدمه المخرج إسماعيل جمال الذي اشتهر بأفلام المقاولات، ولعب بطولته شريف عبد المنعم لاعب الكرة نصف الناجح الذي أصبح ممثلاً فاشلاً والذي لعب بالمناسبة دورا صغيراً لشخصية ضابط إسرائيلي في فيلم (فتاة من إسرائيل)، ويبدو أن صناع (إمبراطورية الشر) راودهم حلم تحقيق إيرادات كتلك التي حققها فيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) فقرروا المزايدة على محمد هنيدي الذي حرق العلم الإسرائيلي، ليقرر بطل فيلم (إمبراطورية الشر) الذي كان تاجراً للسلاح ثم تاب وأناب أن ينهي حياته وينهي الفيلم بالقيام بعملية استشهادية يفجر بها مبنى منظمة دولية رفع عليه العلمان الإسرائيلي والأمريكي، دون أن يحدد الفيلم طبيعة المبنى الذي يوجد عليه هذين العلمين سوياً، وهل يقع في مصر أم خارجها؟ ليكون آخر ما قاله بطل الفيلم قبل أن يفجر نفسه عبارة "نتقابل كلنا في جهنم"، والتي تنتمي إلى تراث عادل أدهم في السينما المصرية، لكن الفيلم لم يقدم أي ربط محدد لها بأمريكا وإسرائيل، وبالطبع لم يسعف الوقت لكي يشرح للمشاهد طبيعة العبارة ولا كيف سيلتقي البطل بأمريكا وإسرائيل في جهنم، لكن هذه الأسئلة لم تشغل المشاهد لأن الفيلم حقق فشلا ذريعا وعرض في سرية تامة وكأنه لم ينتج أصلاً.

لكن فشل (إمبراطورية الشر) و(فتاة من إسرائيل) لم يمنع شريف عبد المنعم من العودة ثانية إلى السينما، ليقدم في عام 2002 فيلما حقق المزيد من الفشل، بعكس ما تمناه صناعه الذين ظنوا أن اشتداد وتيرة العمليات الاستشهادية في فلسطين سيجذب الجمهور إلى مشاهدة فيلم (بركان الغضب) الذي أخرجه مازن الجبلي وكتبه السيناريست أحمد الخطيب، والذي يحكي قصة فدائي فلسطيني يلعب دوره تامر هجرس يهرب إلى مصر ويختبئ فيها لمحاولة إتمام صفقة سلاح يساعده فيها شريف عبد المنعم قبل أن يعود ثانية إلى فلسطين المحتلة، وحين تصاعدت المظاهرات الطلابية ضد إسرائيل في جامعات مصر، بادرت الشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائي أكبر شركة في مصر وقتها إلى شراء الفيلم من منتجه بمبلغ يفوق ضعفي ما أنفقه على إنتاجه، ظناً منها أنه سيحقق نجاحاً جماهيرياً يتماشى مع الغضب الشعبي ضد إسرائيل، مستبشرين بالنجاح الجماهيري المعقول الذي حققه قبل ذلك بفترة وجيزة فيلم (أصحاب ولا بيزنس) من إخراج علي إدريس وتأليف مدحت العدل وإنتاج شركة العدل جروب وبطولة مصطفى قمر وهاني سلامة ووالذي تطرق إلى موضوع العمليات الاستشهادية في فلسطين في مشهد ظل من أشهر ما قدمه الممثل عمرو واكد الذي ظل الكثيرون يعتقدون من وقتها أنه فلسطيني، لكن رهان صانعي فيلم (بركان الغضب) خاب تماماً ولم يمكث الفيلم أكثر من أيام في دور العرض، لتتجدد تجربة الفشل التي صادفت من قبل محاولات استثمار نجاح سابق يحققه فيلم يتطرق للقضية الفلسطينية ويستغل حالة العداء الشعبي لإسرائيل وجرائمها في الأراضي الفلسطينية.

كان اهتمام السينما المصرية بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي قد بدأ عقب اندلاع حرب 1948 وهزيمة الجيوش العربية فيها، وكان من أشهر الأفلام التي استلهمت هذه الحرب فيلم (فتاة من فلسطين) الذي أخرجه محمود ذو الفقار عن سيناريو اشتركت في كتابته زوجته عزيزة أمير مع الأديب الشاب وقتها يوسف جوهر، وللأسف لم يصل إلينا من الفيلم إلا قصته التي نشرتها الصحف والتي تحكي عن طيار مصري تسقط طائرته في قرية فلسطينية بعد تنفيذه لمهمة حربية وتعثر عليه فلسطينية اسمها سلمى فتقوم بتطبيبه وتستضيفه في مركز للفدائيين، وتنشأ بينهما قصة حب لم يبق منها في الذاكرة سوى أغنية "يا مجاهد في سبيل الله ده اليوم اللي بتتمناه" التي غنتها بطلة الفيلم سعاد محمد، وظلت تذاع في كل الحروب التي خاضها العرب مع إسرائيل بعد ذلك، دون أن يتذكر أحد ارتباطها بذلك الفيلم المفقود الذي ظل الفيلم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي يحمل في عنوانه اسم فلسطين، وهي مفارقة مثيرة للأسى والتأمل.
في عام 1950 قام السيناريست والأديب يوسف جوهر أيضاً باستدعاء حرب فلسطين كمبرر درامي على هامش فيلم غنائي استعراضي هو فيلم (غرام راقصة) الذي أخرجه حلمي رفلة ولعب بطولته محمد فوزي وتحية كاريوكا ونور الهدى، فيما يمكن اعتباره أغرب استخدام درامي لفلسطين في تاريخ السينما العربية، فبعد أن يتورط المطرب الصاعد محمد فوزي مع الراقصة اللعوب تحية كاريوكا وتضبطه زوجته وزميلته في الفرقة الغنائية نور الهدى، تقوم بطرده من شقتها لينام فوق السطوح في ليلة باردة فيصاب بالتهاب رئوي، وحين يذهب إلى الطبيب يقول له إنه يجب أن يدخل إلى المصحة لكيلا يموت، وبعد أن ينتهي الطبيب من الكشف يقول لمحمد فوزي إنه سيذهب للتطوع مع الفدائيين في فلسطين، فيطلب منه فوزي أن يقوم فور وصوله إلى فلسطين بإرسال خطاب إلى زوجته، ويقول له إنه سيخبرها في الخطاب بأنه سيحارب في فلسطين، بينما سيكون في ذلك الوقت موجوداً في المصحة، على أمل أن يؤدي اشتراكه في الحرب إلى الإعلاء من نظره لديها، وحين يتعرض الطبيب لحادث مفاجئ في الحرب، تظن نور الهدى أنها فقدت زوجها قبل أن تنتهي أحداث الفيلم بنهاية أسعد من النهاية التي حدثت لفلسطين في الحرب التي أصبحت في تلك الفترة سبباً درامياً معقولاً للغياب المباغت والعودة المفاجئة.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.