الأرواح الجميلة تتحرّك
عزيز أشيبان

نلتقي عدداً كبيراً من الناس في أماكن مختلفة وفترات زمنية عابرة أو ظرفية لأسباب متنوعة في رحاب لقاءات اجتماعية أو مهنية متعدّدة ومتباينة الأهداف، نعاين عن قرب اختلاف وتعدد وتمايز الطباع والسلوك وردّات الفعل. وفي هذا الزخم من الذخائر البشرية تعتلي وتسمو زمرة من الأرواح الطيبة الزكية التي تتمايز عن غيرها وتستأثر بكل ما هو جميل، ننجذب نحوها ونستسلم لقوة نقائها، وتلقائية وسلاسة تعاملها، وصدق كلماتها وبساطة فلسفتها، وضياء وجوهها وإشراقة ملامحها، فتتدفق أنهار السكينة والطمأنينة والأمان. إنها الأرواح الجميلة الخفيفة أثناء الحضور، ثقيلة الوقع والأثر، تمنح الحياة معنى وذوقاً وتزكي الأماكن عبقاً وطيباً وتريح النفوس بعد تذويب الشك والارتياب واليأس، وتستقر نقاطَ ارتكازٍ من أجل ثبات الفكر والرؤية ورجاحة الحكمة.
تمتلك الأرواح الجميلة تجليات مميزة تتحرك بين الناس، وتشعّ بما تحمله من خيرات وفضائل، إذ من رحمها تتدفق الفضائل والقيم الرفيعة فعلاً وقولاً ويتجدد الأمل والتفاؤل وحب الحياة. هي أرواح العطاء بامتياز، اختارت لنفسها شرف خدمة فضيلة الحب من خلال إشاعته وترسيخه بين الناس وتزكية حسناته، والتأكيد على مفصلية حضوره ونشاطه واستدامته بين الأرواح عوض نشاط معرّات الغل والحقد والمكيدة والإيقاع.
نميل إلى الاعتقاد أن الذات البشرية أُوجدت على الفطرة السليمة ولأهداف نبيلة من إعمار وبناء وتمثل القيم الجميلة، بعدما انبعثت إلى الحياة بسرّ نفحة ربانية خالصة أعلنت سريان الروح في الجسد، ورخّصت للأعضاء الانطلاق في عملية الاشتغال. هذه الروح الطاهرة التي جُبلت على الفطرة السليمة تتمثل ماهيةَ الصفحة البيضاء التي تستقبل محتوى ما سيدوّن في قلب مساحتها ومسافتها الزمنية من أفعال وسلوك ومبادرات.
تتفاعل الأرواح الجميلة وتتناغم من أجل نسج علاقات مودة ووئام أبديّ ملؤها النقاء والصفاء نحو آفاق شمولية وجماعية يغتني منها القريب والبعيد
رغم اختلاف الظروف وتعاقب الأحداث وتكاثر المؤثرات الداخلية والخارجية وتقاذف الإغراءات المادية ونداءات الغرائز البدائية، تظل هذه الأرواح طيبة زكية في مقاومة وممانعة كلّ ما قد يلوث نقاء بياضها ورونق جمالها في رحلة جهاد يتخلّلها التعب والكد وعدم الاستسلام.
تتغذى الأرواح الجميلة من أطيب الغذاء وترتوي من أعذب المنابع، حيث تعتني بسلامتها ونقاء كُنهها وتجلياتها من خلال: العبادة (معتقداً وممارسة) بحثاً عن شحن الروح وتقوية الإيمان وتطهير الذات من دناءة الخطايا والزلات والزيغ والسلوك، ومن خلال الاعتراف بنواقص الذات ونزواتها للخوض في مواجهتها، وممارسة الامتنان والصفح وفن الترفع والتجاهل عند الحاجة، واتقاء شر النفوس والضغائن، ثم لقاء الأخيار من الناس والبحث المستمر عن الارتقاء والتحسن والتّطهر.
تتطهر الأرواح الجميلة عبر جسور ممارسة التدبر والمراجعة والمساءلة واللوم العقلاني والنقد الذاتي مع الابتعاد عن جلد الذات أو تبخيس حقيقة الوجود أو النهوض بالواجبات أو هدم الهمم، كما تحافظ الأرواح الطيبة على منطقة سلامتها من خلال تشييد نظام مناعة داخلي متين يمنح الوقاية وتنكسر على صخوره أمواج التهديد العاتية المستمرة والمتعاقبة، دون النيل من صلابة الصخر أو تهديده بالتآكل، بل يتجدّد ويتقوى مع مرور الزمن ويستمر في الصمود والشموخ.
تتفاعل الأرواح الجميلة وتتناغم من أجل نسج علاقات مودة ووئام أبدي ملؤها النقاء والصفاء نحو آفاق شمولية وجماعية يغتني منها القريب والبعيد، فيما تتزاوج الأرواح العادية تحت ميثاق المصلحة المادية الصّرفة ومنطق النفعية المحتمل تحصيلُها في منظومة الفردانية. وكلا الفريقين يتبعان خطَّين لا يلتقيان، وفق قناعات معينة ورؤية محدّدة وتصورات ذاتية حول حقيقة الوجود وماهيته.

