الأبنودي ومحمود درويش وهلالة ووهيبة

الأبنودي ومحمود درويش وهلالة ووهيبة

18 ابريل 2022
+ الخط -

رمضان وهلالة (3)

في اليوم العاشر من رمضان؛ اتصلت بي هلالة من مدينة هامبورغ، وأخبرتني أنها ستأتي غداً، قبل موعد الإفطار، إلى إلمسهورن.. وأكدت قبولها دعوتي لتناول فطورها معنا، مما تطبخ أم مرداس، شريطة ألا يكون الطعام ذا تكاليف مرتفعة.

ضحكت وقلت لها: ذكرني هذا الشرط بصديقي "أبي النور"، رحمة الله عليه، حينما كان، قبل 60 سنة، يعيش مع والده وشقيقاته البنات في فقر مدقع، وجاءهم، فجأة، ضيوفٌ من حلب، وكان أولئك الضيوف (متواضعين!) إلى درجة أنهم اشترطوا على والده ألا يصنع عشرين لوناً من الطعام، لأنهم، أي الضيوف، لا يحبون البعزقة، وقالوا إن بضعة أقراص من اللحم بعجين، تليها بضعة أقراص شعيبيات بالقيمق، تكفي وتزيد.. عندما سمع والد "أبي النور" هذا الشرط، وهو رجل كريم بطبعه، طلب منه أن يقرّب أذنه من فمه، فلما قربها، همس له أن يذهب إلى الغرفة الصغيرة التي يقيم فيها الجحش، ويفكه، ويأخذه إلى السوق، ويبيعه، وبعد أن يقبض ثمنه، يذهب إلى الساحة التحتانية، يصنع لحم بعجين، ويشتري شعيبيات، ويعود إلى البيت.

ضحكت هلالة وقالت: من حسن الحظ، لا يوجد لديكم في ألمانيا جحش لتبيعوه من أجلي.

قلت: لا نستطيع أن نقتني جحشاً لأن بيتنا في الطابق الثاني، ومن الصعوبة بمكان إصعاده وإنزاله عدة مرات في اليوم. المهم؛ اسمعي تتمة الحكاية. لاحظ أبو النور، وهو يحكي لنا القصة، أننا كنا نضحك كثيراً، فقال بشيء من الأسى: تضحكون لأنكم لا تعرفون ماذا جرى لي بعدما بعنا الجحش.

سألناه باهتمام: ماذا جرى؟

قال: كان أبي قد وزع الشغل في الحقل بيني وبين الجحش بالتساوي...!

حضرت هلالة، في الموعد الذي حددته بالضبط، لأن المواعيد هنا، في ألمانيا، دقيقة بطبيعتها، فأثناء الحجز بالقطار تعطيك الماكينة الإلكترونية وقت المغادرة ووقت الوصول بدقة، لذلك لا يضطر المرء لأن يقول لصاحبه: سأمر عليك بعد الظهر، أو بين الصلاتين، أو (من العصر وورا).

بعد الفطور، قالت هلالة: كنت تحكي لي، قبل أن أسافر، عن أغنية لحنها الموسيقار عبد العظيم عبد الحق خلال نصف ساعة.. وأنت، مشكوراً؛ أعطيتني أمثلة مقنعة تتعلق بطول زمن الإبداع أو قصره..

أفهمه أنه قادم إلى القاهرة لحضور مهرجان شعري، ويريد أن يتعرف عليه، وإذا كان لديه وقت أن يرفقه أثناء تجوله في البلاد، وأضاف: أريد أن أرى مصر بعينيك

- الصحيح، يا سيدة هلالة، أن عبد العظيم لحن أغنيتين في نصف ساعة، الأولى "وحدة ما يغلبها غلاب" لمحمد قندي، والثانية "هَـ نبني السد" التي غنتها مجموعة. والطريف في الأمر أن الملحن نفسه لحن أغنية "قلبي حَبَّكْ" خلال 14 سنة، وهي الأغنية التي غناها إسماعيل شبانة (شقيق عبد الحليم حافظ)، ولم تصبح مشهورة.

- كيف تفسر هذا؟

- برأيي المتواضع أن السر يكمن في التطريب. أغنية "هنبني السد" لم تشتهر، على الرغم من أن مؤلفها الشاعر مرسي جميل عزيز، الشاعر الكبير، لأنها خطابية حماسية، ولحنُها قليل التطريب. وبالمناسبة؛ عبد العظيم عبد الحق أطلق ذات يوم، أغنية حققت ما يسمى بلغة اليوم (الترند)، عنوانها "تحت السَّجَر يا وهيبة".

- أعرفها وأحبها، ولكن لماذا يقول (السَّجَر)؟

- هذه لغة الناس يا هلالة. ولعلمك في منطقة إدلب قلما تصادفين شخصاً يقول "الشَّجَر".. ومن الأشياء الطريفة التي كنتُ شاهداً عليها، حين نزل فيلم حسين كمال "أبي فوق الشجرة"، إلى صالات السينما في حلب، (سنة 1970)، وكنت أعيش يومئذ في بلدتي معرة مصرين، أكثر من صديق دعاني لمشاهدة الفيلم، قائلاً: تعا لنروح عَ حلب، ونتفرج على فيلم سعاد حسني "أبي فوق السَّجَرة"!

المهم، عندما ظهرت أغنية "تحت السَّجَر"، لم يبق صوص ابن يوم في البلاد العربية، إلا وجلس يترنم بها، وكل واحد عنده مسجلة كان يأتي بشريط كاسيت فيه أغاني محمد رشدي، ويمرر الشريط حتى يصل إلى أغنية "وهيبة"، ويشغلها، ويرفع الصوت وكأنه يريد أن يشارك كل الناس هذه المتعة.. وأنا، بصراحة، كنت أظن أنها واحدة من الصرعات الغنائية التي تنتشر بسرعة وتنطفئ بسرعة، ولكنني، عندما عرفت أن كاتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ارتفعت قيمتُها في نظري من حيثُ المبدأ، فهذا الرجل الذي يَكتب بالعامية، لا يقل، برأيي الشخصي، عن أي شاعر يكتب بالفصحى.. وتأكيداً على صحة كلامي اسمعي هذه الحكاية التي يرويها الأبنودي نفسه في برنامج تلفزيوني وهي أنه كان في بيته، وأتاه اتصال هاتفي، رفع السماعة، وإذا برجل يقول له: مرحبا. حضرتك عبد الرحمن الأبنودي؟

- نعم. مين بيتكلم؟

- أنا محمود درويش. عرفتني؟

- لا يا فندم. أنا معرفش حَدّ بالاسم ده غير محمود درويش الشاعر الفلسطيني.

- أنا محمود درويش الشاعر الفلسطيني.

وأفهمه أنه قادم إلى القاهرة لحضور مهرجان شعري، ويريد أن يتعرف عليه، وإذا كان لديه وقت أن يرافقه أثناء تجوله في البلاد، وأضاف: أريد أن أرى مصر بعينيك.

قالت هلالة: هذه قصص رائعة. ولكن، لا تنس تحت السَّجَر.

قلت: إنها أغنية ناجحة كلماتٍ ولحنا وغناءً، ومحمد رشدي، لعلمك، كان من أصحاب الأصوات النادرة في تاريخ الغناء العربي، وإذا أردت أكلمك عنه بعدما ننتهي من قصيدة (السجر). تأملي، أيتها (الهلالة التي غابت عنا واحتجبت)، بهذا المقطع الشعري:

الليل بينعِسْ على البيوتْ وعلى الغيطانْ
والبدر يهمس للسنابل والعيدانْ
يا عيونك النايمين ومش سائلين
وعيون ولاد كل البلد صاحيين
تحت السجر واقفة بتتعاجْبي- دي برتقانة ولَّا دا قلبي؟

قالت هلالة: أنا أرى فيه شيئاً جميلاً، ولكنني لا أفهم بنقد الشعر.

- وأنا مثلك، لست بناقد شعر، ولكنني اعتدتُ أن أدقق في الكلمات.. عندما حاولت تخيل المشهد الذي يقول فيه الأبنودي (الليل بينعِسْ على البيوت وعلى الغيطانْ)، توقفتُ عند عبارة "الليل بينعِس". يا ستي؛ العبارات التقليدية التي يتداولها الكتابُ هي: الليل يحل- الليل ينزل- والليل يُطبق- اللي يهبط- وامرؤ القيس قال (وليلٍ كموج البحر أرخى سُدُولَهُ)، أما أن تقولي (الليل بينعِس)، فهذا شيء جديد والله. وبالمناسبة، سعيد عقل استخدم فعل النعاس نفسه، ولكن في اتجاه آخر، إذ قال عن البنت يارا: وبإيدها نعسِتْ الإسوارة.. والشيء الأجمل عند الأبنودي قوله إن البنت وهيبة تعجبت وتساءلت: دي برتقالة؟ ولا دا قلبي؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...