إيموجي الحرب الأهلية
لا شيء توقّف. لا إطلاق النار، وإن من طرفٍ واحدٍ معلوم للجميع هو الجانب الإسرائيلي، ولا عودة النازحين من أهالي المناطق المدمّرة، إن كانت جنوباً أو بقاعاً أو ضاحية توقفت. لا اختراقات العدو برًا وبحرًا وجوًا لأرضِ وسماءِ وبحرِ لبنان توقّفت، ولا تحليق المُسيّرات أو إطلاق الرصاص وتمشيط الأحراج بالرشاشات وصولاً حتى إلى خطف مواطنين من قريتهم وفرض حظر تجوّل على بلدات جنوب الليطاني بوقاحة، باتت ماركة مسجّلة للإسرائيليين.
لا شيء توقّف، ديبلوماسياً أيضاً. لا الاتصالات بين عواصم القرار كما تُسمّى، وبين السلطة اللبنانية للتشديد على تنفيذ الاتفاق الذي رعته، ولا تجاهل الغرب للخروقات الإسرائيلية التي وصلت إلى حدّ احتلال قريةٍ لم تستطع بالحرب أن تحتلها، ولا الأخذ والردّ بين اللبنانيين، مع أو ضدّ المقاومة على خلفية تفسير ما آلت إليه الأوضاع ميدانياً وسياسياً، وأسباب ذلك، وخصوصاً الاجتهاد في "ترجمة" اتفاق وقف إطلاق النار الذي اعتبره العدو مجرّد هدنة، حتى بشكلها ذاك لم يحترمها.
لا شيء توقف. فقط برهة التقاط أنفاس عزّت كثيراً خلال الستة والستين يوماً الفائتة من الحرب الضروس، على المدنيين خاصّة، ممّا لم تشهده البلاد في تاريخها لجهة شراستها وتفلتها من أيّة قوانين أو أخلاق أو مواثيق دولية.
لا شيء توقف، حتى إنّ حرباً أخرى، لم تكن ملحوظة للجميع، (أو هكذا كنت أظن) بدورها لم تتوقف. حرب صامتة إن أمكن القول، كانت تدور رحاها عبر الرموز الإلكترونية، أو ما يُسمّى بالإيموجي، على قنوات الأخبار العاجلة التي لم يكن اللبنانيون يستطيعون تحويل أنظارهم عنها طوال الحرب لضرورة تفادي خطر الموت بصاروخ.
ما القِصّة؟
كالعديد من اللبنانيين، اشتركتُ بمواقع إخبارية عدّة توخياً لتأكيد المصادر وتنوّع الآراء. هكذا، صارت الأخبار العاجلة خبزنا اليومي، ولقد تكاثرت تلك الأخبار مع اشتداد الحرب لدرجة كان معها ترك الهاتف من يدي مهمّة مستحيلة وغير حكيمة. فإنذاراتُ العدو الإسرائيلي لإخلاء المباني في بيروت والضاحية وأماكن أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى، والتي كانت تغطي الخريطة اللبنانية، كانت ترد في أيّ وقت، أكان النهار أو الليل. لا بل إنّ بعضها، ولقد كانت الأشدّ لؤماً، كانت ترد في الفترة التي تكون كلّ الكائنات فيها نائمة.
وقنواتُ الأخبار العاجلة أنواع، منها قنوات لا تسمح بالتعليق بتاتاً على أخبارها، وهي الفضلى في حالتنا المزرية وطنياً، وهناك قنوات أخرى تسمح بالتعليق، وهي لمن يتابعها، تكاد تكون كارثة مكتملة، خصوصاً مع نشاط الجيوش الإلكترونية التي تبثّ الإشاعات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والأخبار التافهة والاستعراضية التي تُولّع نقاشًا مرصوفًا بالشتائم.
وهناك مواقع اختارت أن تكون ما بين النوعين السابقين، خصوصًا على تطبيق واتساب، أي أنها تسمح بالتعليق أو بالأحرى التعبير عن مشاعر متلقي الخبر، ولكن فقط برموز الإيموجي، وأوضحها إيموجي الوجوه على اختلاف تعبيراتها، إن كانت "سمايلي فايس" أي الوجه المبتسم أو الضاحك أو الغاضب أو الحزين.
الحركة القديمة التي كنّا نقوم بها عندما نقرأ خبراً، والتي عرفت باسم "لايك" أي أحسنت باللغة العربية، تطوّرت بسرعة نظرًا لنجاحها الكبير، إلى تعبيرات متنوّعة يعبّر عنها الإيموجي
ولقد أصبحت تلك الرموز المختصرة للمشاعر مختصرة أيضا للأفكار. فبدلًا من أن تعبّر عن فرحك وتُعلّل السبب أو تغضب وتعلّل السبب أو لا تُصدّق وتقول لماذا؟ وهذا على ما أظن كان السبب المُوجب لفتح باب التعليق والنقاش، أصبح مسموحًا لك فقط بالتعبير العاطفي دون العقلي.
فالحركة القديمة التي كنّا نقوم بها عندما نقرأ خبراً، والتي عُرفت باسم "لايك" أي أحسنت باللغة العربية، تطوّرت بسرعة نظرًا لنجاحها الكبير، إلى تعبيراتٍ متنوّعة يعبّر عنها الإيموجي: فإنْ كنت غاضبًا أو حزينًا ليس عليك إلا أن تقوم بالتعبير الفوري عبر كبس الزر المناسب لشعورك بين تنويعات الوجوه.
وفضلًا عن توجيهها المتلقي بالاتجاه العاطفي أو الشعوري فقط، إلا أنّ ما لفتني وأثار دهشتي مراراً، ملاحظة كثرة استعمال إيموجي الضحك وحتى القهقهة على أخبار استشهاد الناس بغارات إسرائيل على المباني أو المناطق، أو اغتيال قائد في المقاومة.
وفي سياقِ الحرب النفسيّة التي نتعرّض لها، ومن دون توقّف، إن كان عبر تصريحات سياسيين عنصريين، أو مواطنين اختاروا مساعدة العدو وأنت تخوض تلك الحرب الضروس، وتسمع كلّ يومٍ خبر صديق أو قريب، تنسى للحظات أنّ الموقع مُتاح للعالم أجمع، أي أن أيّ متابع، بما فيهم الإسرائيلي الذي يفهم العربية، بإمكانه أن يعلّق باستخدام تلك الرموز فضلًا عن الجيوش الإلكترونية. فتسأل نفسك مذهولًا: من هو ذاك الذي "يقهقه" لاغتيال شخصيّة وطنية لبنانية، أو قصف مبنى سكني واستشهاد عشرات المواطنين النازحين مع مضيفيهم، وبالمقابل من هو ذاك الذي "يبكي" أو "يغضب" لمقتل جنود همج بلا أخلاق يعتدون على بلده؟
تقوم بالضغط على أيقونة الفرح والقهقهة، من باب العين بالعين والإيموجي بالإيموجي، للتعليق على أخبار مقتل الجنود المعتدين
و "ردًا" على هذا المجهول الحزين على العدو، والفرح باستشهادِ مواطنٍ آخر، تقوم بالضغط على أيقونة الفرح والقهقهة، من باب العين بالعين والإيموجي بالإيموجي، للتعليق على أخبار مقتل الجنود المعتدين، أو إصابة صواريخ المقاومة لتل أبيب مثلًا واندلاع الحرائق فيها.
تتنبه فجأة إلى أنك أصبحت بسرعة من ضحايا هذا الضخ، وأنك، لو صدق أنّ أولئك المعلّقين الشامتين كانوا مواطنين لبنانيين مثلك، فأنت إذاً تخوض حرباً أهلية، لكن بالإيموجي!
صديق كنت قد سألته إن كان بالإمكان أن نعرف مصدر تلك التعبيرات الشامتة، أرسل لي التسجيل التالي على لسان أحد مسؤولي قناة أتابعها: "على هامش الأحداث والتطورات، تصلنا رسائل كثيرة تطلب معالجة موضوع ظهور الوجه الضاحك على الأخبار الحزينة على واتساب. الموضوع سبّب لنا ولكم الكثير من الإزعاج، لذا يهمنا أن نوضح أن نظام واتساب تشانل، لا يسمح بمعرفة الأرقام لحظرها، لذا، نتمنى عليكم التفاعل بما يتناسب مع المحتوى ليطغى على الإيموجي المزعج. وشكرا لتفاعلكم وتفهمكم".
يبدو أنّ الحرب الأهلية، بالإيموجي على الأقل، لا مفرّ منها.