إشكالية المنهج في السياسة السورية

28 ديسمبر 2024
+ الخط -
إنّ جوهر الأزمة السياسية في سورية يكمن في المقارباتِ غير المنهجية التي تتبناها النخب والمجتمعات عند معالجة القضايا العامة. إذ يغلب على التفكير السياسي طابع العاطفة والاعتبارات الأخلاقية أو الدينية، مما يعوق القدرة على الوصول إلى قراراتٍ تستند إلى أسس علمية ومنهجية. هذه المقاربات التقليدية، رغم وجاهتها في مجالاتٍ أخرى، تفتقر إلى الفعالية المطلوبة لإحداث تغيير حقيقي في المجال السياسي الذي يتطلّب دقةً وصرامة أشبه بما يُميّز العلوم الرياضية والفيزيائية.
السياسة، بطبيعتها، شأن مادي يتطلّب تحليلاً عقلانياً وموضوعياً، أيّ قضية تمسّ الشأن العام وتؤثّر على مصالح الدولة والمواطنين، إيجاباً أو سلباً، وينبغي أن تُدرّس وفق منهجية علمية مُحكمة. تبدأ هذه المنهجية بجمع البيانات وتحليلها، ثم وضعها في نماذج علمية دقيقة تُتيح تقييم الخيارات المتاحة، واستخلاص النتائج المترتبة على كلّ خيار. الهدف هنا هو الوصول إلى استراتيجياتٍ وخطط تحقّق المصلحة الوطنية العليا بأعلى قدر من الكفاءة، دون الالتفات إلى العواطف أو القيم الأخلاقية أو الدينية التي قد تعارض تلك القرارات.
لكن، وهنا يكمن العمق الفلسفي، لا يعني ذلك تجاهل الأخلاق والعواطف والدين. بل ينبغي النظر إليها كعوامل مؤثّرة وعناصر وظيفية تخدم الأهداف الاستراتيجية للدولة. فالأخلاق ليست غاية بذاتها في السياسة، بل وسيلة تُطوَّع لتأمين التنفيذ الأمثل للقرارات المُتخذة. الدين، كذلك، ليس عقبة أمام صنع القرار السياسي، بل مورد يمكن تحليله وإعادة صياغته في الخطاب العام ليدعم توجّهات الدولة. بهذا المعنى، تصبح الأخلاق والدين والعاطفة أدوات براغماتية، يجري توظيفها بوعي منهجي لتعظيم المصالح الوطنية.
السياسة بين القوانين الطبيعية والعقلانية المطلقة
السياسة ليست ساحة للأفكار المثالية المجرّدة، بل هي مختبر علمي تُختبر فيه القرارات والنظريات وفق نتائجها العملية. ففي عالمٍ تحكمه قوانين مادية صارمة، يصبح البقاء مرهوناً بقدرة الدول على استيعاب هذه القوانين وتطبيقها بفعالية. لذا، لا مكان للارتجال أو الشعارات العاطفية، بل يجب أن تُبنى القرارات على بياناتٍ دقيقة وتحليلاتٍ منهجية.
النجاح في السياسة مرهون بقدرة الدول على استخدام القوانين الطبيعية والعلمية لصالحها وإعادة تعريف الواقع بما ينسجم مع مصلحة الدولة
إنّ هذا المنهج يستند إلى فرضيةٍ أساسية: البقاء ليس للأقوى أو الأصلح وفق المعايير التقليدية، بل للأصح علمياً والأكثر قدرة على التكيّف. النجاح في السياسة مرهون بقدرة الدول على استخدام القوانين الطبيعية والعلمية لصالحها وإعادة تعريف الواقع بما ينسجم مع مصلحة الدولة. هذا يعني أنّ القرارات السياسية يجب أن تستند إلى الحقائق المادية القابلة للقياس والتقييم، مع مراعاة القدرة على تسخير كلّ العوامل المؤثرة في البيئة السياسية والاجتماعية.
إعادة تشكيل الفكر السياسي السوري
إعادة تعريف السياسة كعلم منهجي يتطلّب ثورة فكرية في العقل السياسي السوري، إذ ينبغي تجاوز الأطر التقليدية التي تُقيّد السياسة بالقيم الأخلاقية أو الدينية، وإعادة توجيه هذه القيم لخدمة المشروع الوطني. الدين، مثلاً، يمكن أن يكون أداة توحيد وتعزيز للهوية الوطنية، بدل أن يُستخدم كسبب للانقسام. كذلك، يمكن للعواطف الجماعية، مثل مشاعر الكرامة أو العدالة، أن تصبح قوّة دافعة للتغيير إذا أُديرت بعقلانية علمية.
سورية بحاجة إلى رؤية سياسية جديدة تستند إلى الحقائق المادية والمنهجية العلمية لتحقيق الاستقرار والازدهار
إنّ العقلانية المطلقة تتطلّب دراسة دقيقة للعوامل المؤثّرة، بما في ذلك القيم المجتمعية، الدين والعواطف، ثم إعادة توجيهها لتصب في مصلحة المشروع الوطني. بهذا، يمكن تجاوز الفوضى السياسية وإعادة بناء الدولة على أسس عقلانية تضمن استقرارها واستمراريتها.
السياسة كأداة لإعادة تعريف المصلحة الوطنية
السياسة، بهذا المنهج الجديد، ليست مجرّد وسيلة للبقاء، بل هي أداة لإعادة تشكيل الواقع بما ينسجم مع المصالح الوطنية العليا. إنّ اعتماد منهجية علمية وعقلانية في اتخاذ القرار هو السبيل الوحيد لتجاوز الفوضى وتحقيق التفوّق في عالمٍ لا يعترف إلا بالنتائج. سورية بحاجة إلى رؤية سياسية جديدة تستند إلى الحقائق المادية والمنهجية العلمية لتحقيق الاستقرار والازدهار.
بهذا الفهم، يمكن للسياسة السورية أن تتحوّل من حالة الفوضى والتجاذب إلى نموذج في الإدارة العقلانية والمنهجية، بما يعيد تعريف المصلحة الوطنية بعيداً عن قيود العاطفة والمثالية. السياسة ليست مجرّد وسيلة للبقاء، بل هي أداة لصنع واقع جديد يُبنى على أسس منطقية وعلمية، تضمن بقاء الدولة وتفوقها في عالم لا يعترف إلا بالنتائج.
كاتب سوري
مصطفى سركس
مهندس مدني من سورية، لديه خبرة واسعة في التحليل الأمني وإدارة المخاطر، كمل يهتم بالشأن السوري وقضايا الحرية والإصلاح.