أيام من الماضي

أيام من الماضي

18 يوليو 2022
+ الخط -

وجدتُ نفسي في فيينا العاصمة النمساوية، بعد أن كنتُ أسافر بين فترة وأخرى إلى الولايات المتحدة الأميركية. والسفر بالنسبة لي متعة ما بعدها متعة. متعة حقيقية اقتنعت بها وأحببتها وتعلقتُ بها في سنّ مبكرة جداً. وفي العودة إلى الوراء قليلاً، واستذكار الماضي فإنني كنتُ أنشد السفر بصورة دائمة، وأدفع ما كنت أحصل عليه لقاء ذلك مبالغ كبيرة، والهدف هو الوصول إلى غاية ورغبة تملكتني، ورغم الصعاب الكثيرة التي واجهتني لجهة الوصول إلى الهدف في هذا المضمار، كنتُ أتابع بشغف، وأسأل وأبحثُ وأواصل المسير والجد، أضف إلى التعرّف إلى أشخاص يكبرونني في السن للوقوف على معرفة تفاصيل دقيقة عن هذا المشروع الكبير الذي يغنيني عن كثير، وفضلته نفسي عن غيره، ويفرّج عنّي كُربة يأمل كثيرون من الالتحاق بها ومعرفة خفاياها بما تحمل من صور تعكس أوجه متخفّية.

في تلك الأيام، لم يكن الكمبيوتر متوافراً بالصورة التي عليها اليوم، وكان بالكاد يُقتنى من قبل الميسورين مادياً. الكمبيوتر كان يحلُ مشكلة كبيرة ويساعد من خلال البحث على الإضاءة عن جوانب مظلمة، أضف إلى أنّه كان يسهم في حل كثير من القضايا والمسائل العالقة التي تشكل طريقاً سهلاً في هذا الاتجاه.

صحيح أنه لم يكن مفروشاً بالورود والرياحين، وإنما يُخفّف من وطأة المعاناة في البحث عن الطرق التي توصلني إلى الهدف المرسوم. وسعيت في حينها في شراء ذلك الصندوق العجيب ومتعلقاته الذي ترك بالنسبة لي بصمة لا يمكن أن تنسى، وبعد سعي حثيث، ومتابعة مستفيضة، وإرهاق جسدي وشحن فكري، وبحث في كل جمال العالم من صور توصلت إلى حل يرضيني، وحققت أول رغباتي في السفر إلى إحدى الدول الخليجية، ومنها إلى عدد من الدول العربية الشقيقة القريبة من مكان إقامتي، وبعد عودتي إلى حيث أقيم التي لم تستمر طويلاً لم أستطع المكوث في بلدي الأم أشهراً، فقررت العودة إلى ملازمة البحث عن طرق جديدة للسفر وتحقيق خطوة أخرى في التغلب على مخاوفي في اللحاق بركب السفر ـ همّي الدائم ـ إلى خارج البلد في السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، هذا هو خياري، حلم كل شاب عربي، وهذا ما سعيت إليه، على الرغم من أنني كنت مرتبطاً بزوجة وأطفال، وبوظيفة حكومية يحلم كثيرون في التمسك وعدم الإفراط بها مهما كانت المغريات، لأنها تبيض ذهباً.

طموح كبير، ورغبة أكبر كانت تسيطر علي، ونتيجة الرغبة وتذليل الصعاب تمكنت بعد جهد من تجسيد الرغبة العارمة، وبعد أن حصلت على تأشيرة دخول الولايات المتحدة في المرة الأولى كان ذلك حلما سعيت له لم يكن ليتحقق لولا الحب الذي كان يلازمني، وبالفعل تحقق وسافرت إلى تلك البلاد الجوهرة. البلاد التي لا يمكن أن نقارنها بأي بلد آخر على وجه الأرض.

عملاق اقتصادي ضخم، أبنية شاهقة، جسور مرعبة ولافتة، شوارع عريضة، أسواق ومجمعات مهولة، وإمكانات مادية لا يمكن أن تقاس بأي بلد آخر. مساحات لا آخر لها، ودنيا هائجة مائجة، وحياة صخب لا تتوقف، فضلاً عن الدولار، العملة المتداولة الذي يصعب مجاراته أو التغلب عليه.

الحياة في الولايات المتحدة تتطلب منك أن تكون ذا دخل مادي مقبول، وضرورة توافر العمل والكسب منه ليساعدك في العيش على أراضيها بصورة ميسّرة، وتأمين متطلباتك الحياتية اليومية التي لا غنى عنها.

العالم هناك يعيش في بحبوحة مادية، وكل يعيش في وحدة بعيدا عن الآخر، ومهتم بمشاكله وهمومه.

كل مسؤول عن حياته الخاصة به، والأيام تمضي بسرعة البرق. بقيت هناك سنوات لم أقضِ سوى عام ونيّف بصورة متواصلة، وكنت ملتزماً بعمل لم أنقطع عنه ساعة واحدة، قضيتها في حبه، وكنت أشتاقه وأنتظر ساعة موعد الانطلاق على الرغم من الجهد الذي أبذله، وبقية السنوات قضيتها متقطّعة في الذهاب والإياب إلى بلدي.

لم أقم هناك الإقامة الطويلة المتواصلة سوى مرة وحيدة نتيجة ظروف قاهرة كنت عانيت منها، ومن الولايات المتحدة فكرت مجدداً العودة إلى أوروبا، والتوجه إلى النمسا البلد الأوربي الذي اخترته من بين كثير من الدول التي كانت السماء مفتوحة بالنسبة لي للذهاب إليها، وهناك أقمت سنوات ومازلت مع الأهل، بعد خروجهم من وطنهم الأم والبحث عن الاستقرار في بلد أكثر أمناً بعد أن قضي على أعداد ليست قليلة من أبناء الشعب السوري، الذي هَجَره أبناؤه ولجأ أغلبهم إلى دول الجوار، ومنهم من ساعدته ظروفه المادية على التوجه إلى الدول الأوروبية، ومكثوا فيها بعد معاناة طويلة تعرضوا لها، وما لمسوه من قهر وحرمان وفاقة وعوز، ودفعوا لقاء ذلك الغالي والنفيس لتحقيق أحلامهم وآمالهم، وهذا ما حصل للكثير منهم الساعين عن الأمان.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.