علاء عبد الفتاح... وأوهام الحريّة بعد الخروج من المعتقل

27 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 14:21 (توقيت القدس)
+ الخط -

يوقظني أحمد حرارة على مكالمة، ليذكّرني أنّ الصورة الأخيرة التي جمعتنا (هو وعلاء وأنا) كانت قبل 12 سنة، في بيت ماما ليلى - مرزوق، أم الشهيد خالد سعيد، ومنذئذٍ لم نجتمع، سوى في المعتقلات والزيارات. هذا حالٌ يشبه ما جرى لأسرة سيف/سويف في الأعوام الأربعة عشر الماضية، لا اجتماع كاملاً للعائلة في نفس المكان واللحظة، عمو سيف وطنط ليلى يزوران علاء في هذا السجن، وسناء في سجن القناطر، منى بين هنا وهناك، عمو سيف في المستشفى، سناء وعلاء يُصطحبون مُقيّدين لزيارة أبيهم في ساعاته الأخيرة، أو على قبره بعد وفاته؛ قهرًا ومرضًا، خالد يولد وعلاء مُعتقل، لانا تولد في لندن وخالها مُعتقل بعد أكثر من عشر سنين، ليلى تُضرب وعلاء يُضرب للمرّة المليون، هي في لندن وهو في وادي النطرون، أو هو في شديد 2 وهي في القاهرة، سناء تروح وتجيء وخالد في برايتون لأنّه دخل المدرسة المناسبة أخيرًا، مُنى أيضًا استقرّت هناك وبدأت عملاً تحبّه، علاء في السجن وليلى وسناء بين البلدين، سجونًا ومظاهرات وضغطًا وتضامنًا وبلادة حكومات لا تنتهي، لا يختلف فيها الأفريقي عن الأوروبي، فعرقُ السلطة غير أعراق الناس.
يحتفظ ذهني ببعض الصور، سنين طوال، بعد أن تناثرت واقعًا، ويكاد يكون دوري منذها إعادة لملمة ما تناثر من هذه الصور، وتلوينها لا خيالاً بل حقيقة، لا ممارسةً ذهنيّة مقاومة، بل واقع أعيشه، وصورتنا (علاء وحرارة وأنا) واحدة من هذه الصور التي لزم اثنتي عشرة سنة ليُعاد التقاطها، ولم أكتب فوقها عند نشرها سوى "25 يناير"، هذه صورة تعني لي الكثير جدًا، وقد تعني لغيري من الذين بكوا حين رأوها مثل ذلك، لم تكن رسالةً لهم على أيّة حال، ولا للسلطة حتى (رغم استحقاقها هذا النوع من الرسائل) لكنّه كان فعلاً منّي لذاتي، أو للزمن: كان الرهان أن نجتمع على ما افترقنا عليه قبل سنين الشتات والمُعتقلات والهزيمة، وقد كان.

كان الرهان أن نجتمع على ما افترقنا عليه قبل سنين الشتات والمُعتقلات والهزيمة، وقد كان

لكنّ صورةً أخرى ظللتُ أتمسّك برؤيتها لأقول لنفسي: لقد انتصرنا رغم كلّ ما جرى. هذه اللحظة التي انتظرت عمرًا مُشابهاً لتحدث: ليلى في البيت، علاء يحكي وهي تتداخل مع ما يقولُ كعادتهما (نقاشٌ عاديّ في الحال) وسناء في غرفتها تشاهد التلفاز أو لعلّها نائمة، يرنّ جرس الباب، يقوم أحدنا ليفتح، فإذ بمنى تحمل لانا على ذراعها وتدخل، وبعدها بيوم يأتي خالد، ليلتقي والده وهو أطول منه، ليحاولا التعارف من جديد، اجتمعت العائلة وليلى على قيد الحياة. انتصرت إرادة ليلى ونضالها، وانتصرت الحريّة، مهما تأخّرت.

**

يُسرفُ الناس في الأمل، لفرطِ غرقهم في قعر البؤس، فقرًا لا حكمة، وقلّة حيلة لا موضوعيّة، يحوّل خبر خروج علاء (بعد عام كامل من إنهاء محكوميّته الجائرة، وبعدما اقتربت ليلى من الموت إضرابًا لتنقذ ابنها، وبعد ضغوط الداخل والخارج) يحوّل الحياة في عيونهم لـ"بمبي بمبي بمبي" يرون وحدهم انفراجة ما، ويبشّرون بها، ثمّ يعاركون أمثالي ممّن يسخرون من الانفراجة المزعومة ويردّدون عليهم كلّ صبيحة: "رعبٌ أكثر من هذا سوف يجيء".

واقع دنيء، يشكّله مجرمون في عصابة تخطفنا والوطن، وفي يدها السلاح

يسرف الناس في الأمل حتى يبهر أعينهم فلا يرون، ويعميهم اليأس بعد الهزيمة فلا يرون كذلك، وأحرص ألّا أفعل، لا أمل ولا يأس، فقط أداء دور، في حدود الطاقة، وحدودها "أُمنعُ لكن لستُ أمتنعُ"، لا عن قدرةٍ ولا استعداد ولا امتلاك أدوات، فقط لأنّ هذا هو الدور الذي يجب القيام به في هذه اللحظة، ولأنّ مرادات السلطة منّا يجب أن تحبطها مرادات مضادّة، على الوجه الذي نختاره لا الذي يقرَّر لنا أو يحاولون إجبارنا عليه. أعترف: لستُ سعيدًا بمجمل الصراع، منذ خروجي بوجهٍ خاص، لكنّي أعتقد أنني سأستمر فيه حتى تنكسر دائرة القسر، والتوقّع، وأصبح قادرًا على الفعل الحر بأقصى درجات حريّته الممكنة، من دون اعتبار للعواقب الرسميّة ولا المجتمعيّة.

ينصحُنا زملاء وأساتذة وأحبّاء، بالهدوء والالتفات لحياتنا ومستقبلنا حتى يمرّ هذا الجنون المُطلق، إذ يكفي ما دُفع، وليس في العمر أكثر مما ضُيّع، ورغم تقديري الصادق لنصحهم هذا، إلا أنّني أراه غير عملي، يصطدم بواقع دنيء، يشكّله مجرمون في عصابة تخطفنا والوطن، وفي يدها السلاح. بعد النصيحة العلنيّة بساعات، اعتُقل اسماعيل الإسكندراني، واختُطف شوقي رجب وأُخفي، واستُدعيتُ أنا كمُتهم على ذمّة قضية جديدة أمام نيابة أمن الدولة، وأذكّرهم: علاء دخل هذا السرداب لأنّه حاول أن يعيش حياة طبيعيّة قبل خمس سنين، لكنّهم أصرّوا على "سجن نصف اليوم" بما يسمّى مراقبة الشرطة، شريف الروبي اشتكى علنًا من تحويلهم حياته لجحيم فحرموه حتى من الجحيم، أحمد عرابي حاول أن يبني مُستقبلاً فهدموه وانتزعوه منه، إسماعيل الإسكندراني اختُطف من الطريق قبل يومين، وسُئل في التحقيق عن منشورات بعضها يثمّن قرارت الدولة ويثني عليها، شوقي رجب مخفيّ قسرًا رغم اعتزاله الحياة العامة منذ سنين طوال، نشاطًا وتعليقًا حتى، والقائمة بلا نهاية.

يسرف الناس في الأمل حتى يبهر أعينهم فلا يرون، ويعميهم اليأس بعد الهزيمة فلا يرون كذلك

في محاولة جادة قبل عامين، فور خروجي من المعتقل، رتّبتُ بمساعدة أصدقاء رحلة تعاف مؤقّتة للمالديف، أبعد مكان استطعتُ اختياره، فقط لأنّه بعيد وهاديء ولن أقابل فيه أحدًا أعرفه، ذهبت لاستخراج جواز السفر، فقالوا "مفيش"، ذهبت لاستخراج شهادة التجنيد قالوا "مفيش"، تواصلت مع كلّ الوسطاء الذين تواصلوا مع كلّ الأجهزة في أعلى تراتبيتها وجاء الردّ حاسمًا "يحمد ربنا إنّه خرج، وإننا سايبينه برّه، ويعتبر نفسه لسه مسجون بس يقدر ياكل ويشرب ويتحرّك ويـ ....".
هذا تصوّرهم الحصريّ عن "الحريّة"، وإما أن تقبل، أو تُستعاد في الوحش الإسمنتيّ الهائل الذي يبتلعون به أعمار الناس وحيواتهم بعد أصواتهم، ولأني لم أدفع السنوات العشر لأحصل على حياة البهائم هذه، لم يكن أمامي سوى محاولة انتزاع كلّ كلمة وحركة وصوت، وما زلتُ، فقط لأتجنّب الإخراس التام والتبهيم الجماعي الذي يفرضونه.
فرحي بعودة علاء لبيته وأسرته وليلى على قيد الحياة لا يوصف، لكنّه لا يوقعني في فخّ أمل متوهّم؛ إذ في حياة طبيعيّة بوجود هؤلاء، لا حياة أصلاً على أيّ صورة ما دامت تصوّراتهم المُجرمة المختلّة هي التي تسيّر البلاد والعباد، إذ لن يكتفوا بما نهشوا، ودمّروا وباعوا وسرقوا، مُرادهم أن ينتفي وجود الكلّ سواهم، ثأرهم مع يناير لا يخمد، واحتقارهم للناس (كلّ الناس) لن يزول، وسيظلّون على انتقاماتهم اللانهائيّة حتى تبتلعهم هزيمة يتجاهلون تجلياتها ويلتهون ويلهون الناس بمعارك قيم الأسرة وحياء المجتمع، تمامًا كما فعل سابقوهم قبل السقوط، لكنّ المرعب أنهم ساعتها لن يُهزَموا وحدهم.