أنا والكلابش وحرامي الأنبوبة (4/5)

أنا والكلابش وحرامي الأنبوبة (4/5)

20 يناير 2021
+ الخط -

أذهلني ما قاله رئيس النيابة، لدرجة أنني لم أفكر حتى في الرد عليه، بل نظرت إلى الأستاذ عبد الله البطريق نظرة عاجزة مستغيثة، كانت بمثابة توكيل في الشهر العقاري له لكي يدافع عني، فشجعه ذلك على أن يسأل رئيس النيابة بما بدا لي شبيهاً بخفر العذارى "لازم يعني سعادتك؟"، ففتح رئيس النيابة فيه جاعورته قائلاً: "جرى إيه يا أستاذ؟ انت هتعرّفني شغلي؟

هو مش متهم زيه زي غيره ولا إيه؟"، فخرج الأستاذ عبد الله البطريق جارياً من المكتب، مما أوحى لي أنها كانت المرة الأولى التي يتعرض فيها لشخط أحد من أيام السيد الوالد، ولذلك كان لا بد أن أدافع عن نفسي فأقول لرئيس النيابة قبل أن تصل الكلابشات إنني في الحقيقة لست متهماً زي غيري، وأنني سبق وتعرضت للتحقيق في قضية نشر قبل ذلك، فلم يتم وضع يدي في القيود، وعوملت أحسن معاملة، وقبل أن أكمل كلامي، فوجئت به يخبط المكتب بكلتا يديه ويقول لي: "مش ذنبي يا بيه إن اللي حققوا معاك ما طبقوش القوانين.. انت هنا زيك زي أي متهم.. والصحفيين مش على راسهم ريشة.. وبعدين انت أصلاً مش عضو نقابة صحفيين ولا معاك محامي عِدِل فمش فاهم انت منفوخ على إيه".

للحظات هممت أن أقول له مشاكساً إن ما أنا فيه ليس نفخة غرور، بل هي نفخة دهون بسبب سوء التغذية، لكنني خفت من أن يزيد تعليقي الطين بلّة، وقبل أن أجد تعليقاً أفضل، سألني عن سمير عمر ولماذا لم يحضر معي إلى التحقيق، فقلت له إنني لا أعرف لأن الصحيفة التي نعمل فيها تم إغلاقها مؤخراً، ولم نعد نرى بعضنا كصحفيين، فعاد ثانية إلى تهكمه العدائي وقال لي "وكمان بتشتغل في جرنان من بتوع بير السلم.. ومش عايز تتكلبش.. أنا أصلاً ممكن أتهمك بانتحال صفة صحفي"، وحين استجمعت قواي وطلبت منه أن يسمح لي بالاتصال برئيس مجلس إدارة الصحيفة أو رئيس التحرير ليقوم بإرسال محامي آخر على وجه السرعة، قال لي ساخراً إنني متأثر على ما يبدو بالفرجة على المسلسلات، حيث يقوم المتهمون باستخدام تليفونات النيابة للحديث مع أقاربهم ومعارفهم، مؤكداً أنني لا أحتاج إلى طلب محامي، لأن المحامي الحاضر معي والذي أثبت حضوره في المحضر موجود في الخارج، مشيراً إلى الأستاذ عبد الله البطريق الذي اكتشفت أنه لم يفلِّق هارباً من المبنى، بل قرر الحفاظ على ما تبقى من كرامته ووقف في الممر مطلاً علينا من بعيد، فنظرت إليه بكل ما في الدنيا من كراهية، وأنا ألومه لأنه لم يهرب من المكان ليتيح لي التحجج بغيابه لكي أطلب محامياً فيه الرمق.

كان أمين الشرطة قد عاد إلى المكتب وفي يده كلابش حديدي، وعلى وجهه ابتسامة عريضة تليق بمن يوشك على تحقيق انتصار تاريخي، وحين طلب مني أن أقوم بمد يدي لكي يضع فيها الكلابش، قرر رئيس النيابة التصعيد طالباً منه ألا يقوم بتقييدي منفرداً، وأن يضعني في كلابش مع متهم آخر، لكي أعرف أنه لا يوجد أحد فوق القانون، وهو طلب أدهش أمين الشرطة وأربكه، لكنه عاد إلى تركيزه حين شخط فيه رئيس النيابة وأمره بأن يصحبني إلى الممر حتى يفرغ لي.

أخذ محمود تنهيدة طويلة بعد أن انتهى من سرد حكايته، ونظر إلي متطلعاً كأنه كان ينتظرني بشغف لكي أشاركه رأيي فيها، وكنت أتمنى أن يكون لدي ما أقوله له لأخفف عنه

كنت وقتها قد خرجت يا دوبك من "تَولتي" وبدأت استجماع تركيزي، وأدركت أن ما أنا فيه ليس كابوساً عابراً، ولا علاقة له بغضب رئيس النيابة من الدكتور إبراهيم علي صالح لأنه لم يتنازل ويتكرم بالحضور معي، وأرسل بدلاً عنه أقصر وكلائه وأكثرهم شياكة، وهو خاطر تافه يمكن أن يصف لك إلى أي حد كنت مصدوماً مما حدث، ربما لم يكن رئيس النيابة سيشخط في الدكتور إبراهيم بنفس الطريقة المهينة، لكنه كان سيغلظ له ولي في القول، وربما أكرم خاطر النائب السابق لرئيس محكمة النقض فقرر أن يفرد لي كلابشاً مستقلاً، لأن التعليمات التي وردته تقضي ببهدلتي وإهانتي، وهو ما تأكدت منه بعد قليل.

وسوست نفسي المرتعدة لي بأن أنحني حتى تمر العاصفة، ورجتني أن أخضع بالقول لرئيس النيابة وأطلب منه التعامل معي برأفة وشفقة لأنني "ابن ناس ليس له في البهدلة"، لكنني تجاهلت وساوسها، لأنني أدركت أن رده علي سيكون بكلام ناشف من عينة "ولما انت ابن ناس ومالكش في البهدلة إيه اللي يخليك تشتغل صحفي؟"، لذلك قررت أن أغير طريقتي في التعامل معه، وأصوب نحوه نظرات متحدية لكنها منضبطة، ثم أسير خلف أمين الشرطة خارج المكتب، وأنا أحاول التظاهر بالتماسك، مع أنني كنت خرباناً من الداخل.

(7)

لا أذكر كم لبثت من الوقت قبل أن أدرك أنني أجلس على دكة خشبية في الطرقة المواجهة لمقر النيابة، ويدي اليسرى مربوطة بكلابش يمتد طرفه الثاني إلى يد شاب يجلس إلى جواري، لكنني أتذكر صدى صوت أمين الشرطة وهو يقول لي "ما تقلقش هاكلبشك في الإيد الشمال وهاوسّع لك الكلابش"، وأتذكر أن الدكة كانت أسفل شباك كان مفتوحاً على مصراعيه لدوشة الشارع ودفء الشمس ونور ربنا، وأنني حين حاولت أن أقف لأطل من الشباك الذي كان أعلى من مستوى رأسي تنبهت إلى شريكي في الكلابش الذي نظر نحوي بابتسامة مودة عريضة ظننت لأول وهلة أن الموقف لا يتحملها.

لا أدري هل كانت تلك "البلاكة" التي رحت فيها حيلة دفاعية من العقل لاستيعاب ما جرى، تمهيداً للتفكير فيما سيجري، أم أنني كنت حاضر الذهن طيلة الوقت لكن ذهني قرر في لحظة كبرياء أن يقوم بعمل مونتاج للأحداث مزيلاً لحظة تقييدي في الكلابش، والتي استدعت هذه المرة إحساساً عميقاً بالإهانة، ربما لأنني أصبحت أحسب نفسي من أهل الفكر والقلم الذين لا يصح معاملتهم كمجرمين، بعكس المرة الأولى التي تمت كلبشتي فيها ولم تثر فيّ إلا إحساساً طاغياً بالخوف يليق بفتى في السابعة عشر من عمره، مع أن سبب الكلبشة يومها كان سياسياً أيضاً، ومع ذلك فقد كانت مشاعر الخوف أقوى من مشاعر الألم والإهانة.

لكن مشاعر الإهانة والألم سرعان ما اختفت هذه المرة، وحل محلها شعور غامر بالاستهانة واللا مبالاة بما جرى لي من كلبشة، وكان الفضل في ذلك لشخصين: الأول الأستاذ عبد الله البطريق الذي كان قد عاود الاختفاء بعد كلبشتي، ولم يعد يظهر في المجال الحيوي المحيط بي، فظننت أنه قرر أن يعود إلى بلدته جارياً وتاركاً هذه المدينة الظالم أهلها ورؤساء نياباتها، لكنه أطل برأسه فجأة من أحد زوايا الطرقة، وتلفت في كل الاتجاهات كأنه يبحث عن رئيس النيابة، وحين اطمأن إلى عدم وجوده لوّح إلي بالملف في حركة لم أفهم هل كانت تحية أم إشارة تضامن أم تأكيداً على بلاهته وسوء حظي.

ولأنه كان الوحيد الذي أعرفه في المكان، لم أمنع نفسي من الإشارة إليه بيدي اليمنى لكي يقترب حتى أسأله عما إذا كان قد ذهب للاتصال بالدكتور إبراهيم على صالح، أو أطلب منه أن يتصل بعصام إسماعيل فهمي أو إبراهيم عيسى، لعلهما يشوفان لي صرفة في ما أنا فيه، لكنه تعامل مع إشارتي بوصفها عزومة له على الفطار أو على كوباية شاي، فوضع يده على صدره وانحنى، كأنه يقول لي "لا اتفضل انت أنا سبقتك"، لتعلن أجهزة استقبال مخي عن فشلها في فهمي، ويتسبب ارتباكها في تحفيز مراكز الضحك، فأنفجر في ضحك هستيري، تضاعف حين فاجأني الأستاذ عبد الله البطريق ورفع شارة النصر، مؤكداً لي أنه لا يملك شيئاً يقدمه لي غير رفع اصبعيه وضمهما إلى بعضهما، فرددت على تحيته برفع الأصبع الوسطى وتصويبها نحوه، طالباً منه أن ينقلع عن وجهي إلى الأبد، لأن المسألة ليست ناقصاه على الإطلاق.

لم يكن لدي ما أقدمه لمحمود العتّال سوى الصمت المطبق، لأنني لم أكن أمتلك كلاماً ذا معنى وقيمة يمكن أن يواسيه في محنته، وهو خاف من أن يطول صمتي، فيفقد حالة الونس التي بلّت ريقه ولو لدقائق

أما ثاني من ساعدني على تبديل مهانتي إلى استهانة، فقد كان شريكي في الكلابش الذي كيّفته حركة فع الأصبع الوسطى، فشاركني في الضحك وهو ينظر لي بإعجاب، ثم بادر بتعريفي على نفسه قائلاً إن اسمه محمود العتّال، وأن العتال هذا ليس لقبه بل اسم شهرته، وأنه من أبناء السيدة زينب، وقبل أن أفتح فمي بكلمة، قال لي إن ولاد الحرام قبضوا عليه بتهمة سرقة أنبوبة، وأنه مظلوم ويشهد الله على ذلك، وأن الحكاية وما فيها أنه كان يسير في أحد شوارع السيدة ساعة الصبحية متجهاً إلى الناصية التي يقف عليها كل يوم مع غيره من عمال الفاعل السارحين على باب الله، في انتظار من يمر عليهم من المقاولين والراغبين في استخدامهم، فرأى أنبوبة محطوطة في مدخل أحد البيوت، فظن أن أحد السكان تخلى عنها لوجود عيب فيها، خاصة أنه لم ير عربة أنابيب في الجوار، ولم يسمع صوت ارتطام المفتاح المعدني بجسم الأنبوبة والذي يعلن عن وجود "بتاع أنابيب في المنطقة"، وحين استمر لدقائق في مراقبة الأنبوبة ولم ير من يقترب منها، اعتبر الأنبوبة هدية جاءته من السماء، وعليه أن يتقبلها بصدر رحب، فقرر لفح الأنبوبة على كتفه، والذهاب بها إلى أقرب تاجر خردة لبيعها وإراحة نفسه بثمنها من عناء العتالة ليوم أو ليومين.

لم يكن محمود يعلم أن عربة الأنابيب موجودة بالفعل ولكن في عطفة متفرعة من الشارع، وأن بتاع الأنابيب كان قد ترك تلك الأنبوبة على مدخل البيت، وصعد لتركيب أخرى في شقة في الثالث، لكنه تأخر لمحاولة حل مشكلة في خرطوم الأنبوبة، وحين امتنت صاحبة البيت لجدعنة ومهارة بتاع الأنابيب، قرر أن يستغل لطفها بعد أن انتهى من شرب كوباية الشاي، وطلب دخول الحمام لعمل الثقيلة لكي يلف في الشوارع براحته، وحين ارتاح وأخذ عرقه ونزل فوجئ باختفاء الأنبوبة، فجرى كالمجنون بحثاً عنها، حتى لمح محمود وقد لفحها على كتفه، فهتف وصاح ولمّ عليه الناس، وهو ما أربك محمود الذي شعر أن بتاع الأنابيب لن يصدق ملابسات أخذه للأنبوبة، ولذلك وزّه الشيطان فقرر أن يجري بها، مستغلاً لياقته البدنية العالية.

كان يمكن أن يفلت محمود بالأنبوبة، لولا أن ساق الله له سائق موتوسيكل كان متأثراً على ما يبدو بأفلام جاكي شان وفان دام، فقرر أن يجري خلفه بماكينته، وحين اقترب منه ركله بعنف شديد، فسقط على الأرض وهو يحتضن الأنبوبة خوفاً من انفجارها به، وقبل أن ينهض ويطلق ساقيه للريح، انقض عليه عدد من مكافحي الجريمة الذين وجدوا فيه فرصة سانحة لفش غلهم، فانهالوا عليه صفعاً وركلاً، دون أن يستجيبوا إلى توسلاته بأن يعطوه فرصة لشرح الموقف.

صمت محمود للحظات قبل أن يكمل باقي الحكاية، وحين أكملها فهمت سر صمته الذي يبدو أنه كان يفكر خلاله في ائتماني على بقية التفاصيل أم لا، وحين قرر أن يحكي ليتخفف من بعض أحماله، قال لي إن الذي زاد وغطى على ما تعرض له من ضرب وحشي، أن أحد الضاربين "الشرفاء" قرر فجأة أن يقوم بـ "غَرف" محمود، وهو ما حوّله من كائن مستسلم إلى وحش كاسر يفتك بكل من يحاول الاقتراب منه، فزاد من ضغينة الذين نالوا منه بعض البونيات والركلات والبوكسات، فقرروا بعد أن تكاثروا عليه وتمكنوا من تكتيفه أن يقولوا لضابط الدورية أنه حاول الاعتداء عليهم بمطواة قرن غزال، لا يدري محمود من أين ظهرت، ليلبس إلى جوار تهمة سرقة الأنبوبة، تهمة حيازة سلاح أبيض وتهمة البلطجة، وتفشل كل محاولاته في إقناع بتاع الأنابيب بأنه شاب غلبان وعلى باب الله زيّه، وأنه لم يكن سيمد يده على أحد لولا "البعبوص" الذي ناله بوضاعة وعدوانية، لكنه حين رأى ضابط الدورية وهو يسخسخ على روحه من الضحك، حين جاءت سيرة "البعبوص"، قرر ألا يجيء بسيرته في المحضر، مكتفياً بالقول إنه كان يدافع عن نفسه، ومتمسكاً بإنكار التهمة، على أمل أن يجد في النيابة شخصاً يستمع إليه ويرأف بحاله.

أخذ محمود تنهيدة طويلة بعد أن انتهى من سرد حكايته، ونظر إلي متطلعاً كأنه كان ينتظرني بشغف لكي أشاركه رأيي فيها، وكنت أتمنى أن يكون لدي ما أقوله له لأخفف عنه، لكنني كنت وقتها مشغولاً بمشاعر الخجل التي تتملكني لأنني نصبت مناحة بداخلي، لمجرد أنني تعرضت للكلبشة لدقائق ربما تحولت إلى ساعات، لكنها تظل أهون بكثير مما عاشه محمود في تجربته الأليمة.

مددت يدي اليمنى لأربت على يد محمود اليمنى التي تشاركني الكلابش، وأنا أواسيه وأتضامن معه وأطلب منه التماسك لأنه ـ وليسامحني الله على كذبي ـ سيلقى من رئيس النيابة كل اهتمام ورعاية، خاصة أنه ليس صاحب سوابق، وهو ما سيتكئ عليه محاميه بالتأكيد لكي يثبت براءته، ليقاطع محمود هطلي الراغب في تطمينه بنصف شخرة قائلاً: "وهو أنا لو معايا فلوس أوكّل بها محامي كان ده حالي"، لتزيح عبارته ستاراً كان مسدلاً عليه، بحيث لم أكن أرى منه إلا وجهه ويده الملتصقة بي، فآخذ بالي من ملابسه المتسخة والمهربدة، والشبشب المهترئ الذي تبدت منه قدماه اللتين لا زالتا تعانيان من جروح متعددة حدثت بفعل جرجرته في الشارع وحدفه في البوكس، قبل أن يرمى في الحجز لأسبوع أو دون ذلك، وحين طلب منه أمين شرطة أن يمنحه علبة سجائر لكي يتيح له الاتصال بأهله وطلب محامٍ للدفاع عنه، اكتشف أمين الشرطة أنه قضية خاسرة، لأن محمود القادم من بني سويف للاسترزاق في القاهرة، لا يمكن أن يتصل بأحد أقاربه في البلد ليفرجهم على خيبته الثقيلة، ولا يملك وسيلة للاتصال بأبناء بلدته الذين يتشارك معهم السكن في غرفة فوق السطوح، ولذلك اختار أن يستسلم لقدره وينتظر عرضه على النيابة، مسلماً أمره لله وللعدالة التي كان لديه ثقة غامضة فيها.

(8)

لم يكن لدي ما أقدمه لمحمود العتّال سوى الصمت المطبق، لأنني لم أكن أمتلك كلاماً ذا معنى وقيمة يمكن أن يواسيه في محنته، وهو خاف من أن يطول صمتي، فيفقد حالة الونس التي بلّت ريقه ولو لدقائق، فتنبه إلى أنه لم يسألني إلا عن اسمي ومن أين أراضيّ، لكنه نسي أن يسألني عن الذي جاء بي هنا، وأنا تسرعت في الرد فقلت: "قضية نشر"، وقبل أن يعلق مستغرباً، حاولت التوضيح أكثر فقلت: "قضية صحافة"، وكان بديهياً أن يسألني ببراءة: "إيه؟ سرقت جرايد يعني؟"، ليستغرب من كريزة الضحك التي أصابتني، والتي قررت خلالها ألا أشرح لمحمود ما أتى بي إلى النيابة، لكيلا نفقد روح التضامن الجميلة التي باتت تجمعنا كلصوص صغار، أو ربما لكيلا يقلق من تفاصيل قضيتي، فيأخذ جنباً مني وأفقد حالة الونس التي كنت محتاجاً إليها مثله وأكثر.

لذلك قلت لمحمود إنني حاولت سرقة جهاز كمبيوتر من الصحيفة التي أعمل فيها، لأن صاحبها تأخر في صرف مرتبي، وكان لا بد أن أتصرف بأي شكل، وأدفع الإيجار قبل أن يتم طردي من الشقة لأبات في الشارع، وأنني برغم دراستي للموضوع ودخولي إلى مقر الصحيفة في توقيت مثالي، إلا أنني تعرضت للخيانة من أحد زملائي الذي كان يفترض أن يشاركني في سرقة كمبيوتر آخر، لكنه خاف في آخر لحظة وقرر الانسحاب، ولكيلا يتم اتهامه بسرقة الكمبيوتر، قرر أن يبيعني، فيكسب بنطاً لدى صاحب الصحيفة، وأذهب أنا إلى الجحيم، ليتم القبض علي متلبساً بحمل الكمبيوتر على سلالم مقر الصحيفة، ومع أنني اجتهدت في محاولة إقناع مدير الصحيفة أنني كنت ذاهباً لإصلاحه، لأنه دائم التهنيج، إلا أن ما قلته لم يكن مقنعاً، خاصة أنني قررت أن أقوم بالمرة بسرقة كرسي رئيس التحرير الذي لم يكن ظهري يشعر بالراحة إلا عليه.

على عكس ما توقعت، لم يرتح محمود لما قلته، وبدلاً من أن يعلن تضامنه معي، انطلق في وصلة لوم وعتاب، لأنني أسلمت نفسي للشيطان وضيعت مستقبلي، وأنه لو كان مكاني لفعل المستحيل لكي يحافظ على الفرصة التي منحها له الزمان بأن يعمل في وظيفة محترمة بدلاً من البهدلة وقلة القيمة، فلم أرغب في تبويخ حماسه بالقول إن الزمان استرد فرصته التي منحها لي بعد إغلاق الصحيفة، وأن حكاية سرقة جهاز الكمبيوتر التي قلتها له لم تكن خيالاً عابثاً ابتدعته في ساعتها لمد حبل الحديث، بل كانت قراراً اتخذه زميل لنا كان متزوجاً ويعول، وكان على وشك تنفيذه بعد دراسة مستفيضة للفكرة، لولا أن أنعم الله عليه بفرصة عمل أغنته بالحلال، وأنني أتمنى أن أخرج من النيابة على خير، لكي أبحث عن فرصة عمل عاجلة تمكنني من دفع الإيجار، دون أن أضطر إلى مد يدي لحدّ أو على حاجة حدّ.

كان يمكن لحبل الحكي أن يطول أكثر بيني وبين محمود العتّال، لكنه انقطع فجأة حين اقتحم عبد الله البطريق المشهد، ليس لأنه خجل من هروبه وقرر أن يقف إلى جواري ويشد من أزري، بل لأنه أخذ كلمتين في جنابه من الدكتور إبراهيم على صالح الذي اتصل به عبد الله على الموبايل وأبلغه بما جرى لي، فطلب منه الدكتور إبراهيم أن يطلب مني إبلاغ رئيس النيابة فوراً باحتجاج الدكتور إبراهيم شديد اللهجة على ما جرى، وأن أتوعده بتقديم شكوى ضده في مكتب النائب العام، لو لم يقم بفك الكلابش حالاً، وحين طلب منه عبد الله أن يتكرم بالمرور لإبلاغ رسالته لرئيس النيابة، طلب منه الدكتور إبراهيم أن يغلق الاتصال لأنه خرج من الحمام وسيعاود الدخول إلى قاعة المحكمة التي يترافع فيها، مشدداً عليه أن يطلب مني الثبات والتماسك، لأن أي تردد أو ارتباك سيظهر علي، قد يؤدي إلى طمع رئيس النيابة أكثر، وربما قرر حجزي على ذمة التحقيق وإصدار توصية بتحويلي إلى القضاء العسكري الذي يفترض أن يختص بنظر موضوع كهذا له علاقة مباشرة بالجيش، وعندها سيتعقد الموضوع أكثر، ولن يكون الدكتور إبراهيم قادراً على التدخل فيه، وقبل أن أفشّ غلي في عبد الله البطريق وأذكره بأن رئيسه المبجل لم يتدخل أصلاً حتى الآن ليتدخل فيما بعد، وأطلب منه أن ينقّطني بسكاته ويتركني لمواجهة مصيره، كان عبد الله البطريق قد ابتعد عني فور انتهائه من إبلاغ رسالته واختفى من حيث أتى.

لست متأكداً ما إذا كان محمود العتال قد فهم كل ما قاله عبد الله البطريق، لكنني أعرف أنه فهم من سياق الكلام أنني أخطر مما تصور، لذلك أخذ يبتعد عني شيئاً فشيئاً مع أن الدكة كانت أصغر من أن تسمح بمزيد من البعد، وحين نظرت إليه مستغرباً، أشاح بوجهه ثم أغمض عينيه هارباً مني، فشكرت له في سري أنه كان أصيلاً، فلم يرفع عقيرته بالصياح منادياً على أمين الشرطة لكي يخلصه من توريطته معي ويطلب تقييده مع شخص أقل خطورة مني، وقررت أن أمازحه قائلاً له إن الذي كان يتحدث منذ قليل "محامي على فكرة ما يغركش منظره"، ويمكن أن أطلب منه أن يحضر معه التحقيق، لكن محمود العتال لم يتجاوب مع مبادرتي الراغبة في نكشه، وقال لي دون أن يفتح عينيه: "والنبي يا عم تسيبني في حالي.. علي الحرام من ديني أنا مش ناقصك".

أعادني محمود بكلماته القليلة الحزينة وبـ "أتّتيوده" إلى حالة الأسى التي كان قد أخرجني منها، لكنني لم أستجب لنفسي الأمارة بالسوء التي نصحتني أن أفش غلّي فيه، وأذكره بما بيننا من فروق، وهي نصيحة كشفت لي عن غرق نفسي في الضلالة، لأن محمود كان برغم قلة بضاعته القانونية والسياسية، واعياً لدرجة كبيرة أكدت له أن البعد الفوري عني غنيمة، وأن مد حبل الود بيننا لن يكون في صالحه، وقد يجعل موقفه في القضية أسوأ، لذلك اختار أن يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى تزول غمة وجودي إلى جواره.

لكن ما قالته لي نفسي الأمّارة بالسوء كان أكثر واقعية ووجاهة مما بدأت تقوله لي نفسي اللوامة أو ضميري أو شيء ما بداخلي لم أتمكن من تحديده على وجه الدقة، لكنني أتذكر أن ذلك الصوت الذي علا بداخلي أخذ يتحدث عن أهمية أن أفتح صدري لمحمود حتى وإن نأى وأعرض بجانبه، وأحدثه عن كل ما كتبته من أجل الفقراء والغلابة والناس الطيابة، لعله يدرك أن هناك من يمكن أن يشعر بوجعه وآلامه، حتى وإن تعرض للظلم والقهر، وحين أساء ذلك المتحدث تقدير صمتي، وظنه موافقة على ما يقوله، تمادى وطلب مني أن أؤكد لمحمود أنني لن أتخلى عنه، وأنني سأساهم في إيصال صوته للناس، حتى وإن تمت إحالتي إلى القضاء العسكري، فطلبت من المتحدث أياً كان أن يخرس، قبل أن أنهال عليه بجزمتي، حتى يفيق من بلاهته، ويحسن تقدير الموقف الذي يجعلني عبئاً على محمود، الذي لعله الآن يعض أصابع الندم لأنه شاركني في أحزانه، وظن بي خيراً لدرجة أنه طلب مني أن أساعده في حسم الجدل الذي يدور بداخله حول موضوع "البعبوص"، الذي لم يكن متأكداً هل سيكون من الأفضل أن يحكي عنه لرئيس النيابة لعله يساهم في فهم الظرف الذي كان يمر به، أم يستمر في إسقاطه من روايته، لكيلا يسخر منه رئيس النيابة كما سخر حضرات الضباط من قبله، وحين نصحته بأن يتجاهل الموضوع وألا يتوقع الكثير من رئيس النيابة الذي ربما كان في الأساس ضابط شرطة سابق، شعر بالإحباط الشديد، ولعله الآن يتعامل مع تلك النصيحة بوصفها توريطة من شخص بالغ الخطورة، لدرجة أنه قرر أن يدخل في خصومة مع الجيش بجلالة قدره.

...

نختم غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.