أنا والكلابش وحرامي الأنبوبة (1/5)

أنا والكلابش وحرامي الأنبوبة (1/5)

17 يناير 2021
+ الخط -

(قبل حوالى خمسة أعوام بدأت في كتابة هذه الحكاية، وشرعت في نشرها في موقع (العربي الجديد) تحت عنوان (في صحبة حرامي الأنبوبة)، ثم توقفت عن استكمال تفاصيلها بعد وفاة أستاذي الكاتب الكبير علاء الديب، حيث انقطعت عن الكتابة بعدها لمدة عام وعشرة أشهر، وظللت أتلقى طول الوقت رسائل تطالبني باستكمالها، وخصوصاً بعد أن استأنفت الكتابة في هذه المدونة في منتصف عام 2018، لكنني حين عدت إلى الحكاية لاستكمالها، وجدت أنها بحاجة إلى المزيد من التفاصيل التي تسمح بها مساحة هذه المدونة، ولذلك قررت أن أعيد كتابة الأجزاء التي سبق نشرها قبل سنوات، ثم "ألضُمها" بعد التعديل في بقية الحكاية، وأتمنى أن تنال إعجابكم بإذن الله). 

....

كانت قد انقضت أيام قليلة على خلع حسني مبارك، وكانت قد مضت أسابيع دون أن أمر بجوار مبنى محاكم الجلاء المحترق، والملاصق لمبنى مؤسسة الأهرام في وسط القاهرة. يومها كان كوبري أكتوبر مزدحماً كعادته، وهو ما ساعدني على تأمل تفاصيل المبنى المحترق ذي الشكل العِفِش، ليندهش من معي في السيارة، وهم يرونني أتنهد وأحوقل وأضرب كفاً بكف، وأنا أتذكر بمزيج من الشجن والأسى، وقائع ذلك اليوم العصيب من أيام مارس 1998، الذي قضيت بعض ساعاته بداخل هذا المبنى، كتفاً إلى كتف، أو فلنقل كفاً إلى كف في صحبة حرامي الأنبوبة.

(1)

كنا يومها في أواخر شهر فبراير 1998، حين وقّعت بالاستلام وبعلم الوصول على استدعاء نيابة السيدة زينب لي للتحقيق العاجل، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية ومخالفة قانون تنظيم الصحافة، مع أنني لم أعد رسمياً على قوة العمل في أي صحيفة يمكن أن أخالف فيها قانون تنظيم الصحافة، فصحيفة (الدستور) التي كنت أعمل سكرتيراً لتحرير إصدارها الأول، كانت قد أغلقت قبل أيام من توقيعي على الاستدعاء، بفعل قرار رئاسي غاشم قطم رقبة صحيفتنا بعد حوالى عامين وثلاثة أشهر من مناورات مريرة ومبهجة على طريقة (علي الزيبق)، كنا نخوضها كل أسبوع مع أجهزة الأمن والرقابة والإعلام، لكي تصل الصحيفة إلى الآلاف من قرائها بانتظام، حتى وإن تعرضت لرقابة غشيمة، كانت تشوه بعض صفحاتها كل أسبوع، لأن (الدستور) كانت وقتها حاصلة على ترخيص إصدار قبرصي، كانت الصحف تلجأ إليه للتحايل على قيود إصدار الصحف داخل مصر، فقد كان القانون القبرصي يتعامل بمرونة بالغة مع الراغبين في الحصول على رخص لإصدار الصحف، ليس فقط إيماناً بالمعايير الأوروبية لحرية الصحافة، بل كجزء من "بيزنس النشر" الذي راج في قبرص منذ مطلع الثمانينيات، وفتح الباب لإصدار صحف ومجلات قبرصية الهوية عربية اللسان، لم تجد فرصة للصدور القانوني في بلادها التي تم تأميم الصحافة والإعلام فيها.

لم يكن القانون القبرصي يشترط طباعة الصحيفة الحاصلة على الترخيص وتوزيعها في قبرص، بل كان يسمح للصحيفة الحاصلة على الترخيص بالطباعة والتوزيع في مصر، طالما قامت بدفع المعلوم، لكن السلطات المصرية كانت تشترط إطلاع الرقابة على محتويات أي صحيفة حاصلة على ترخيص أجنبي، ولكن بعد الطبع وليس قبله، لتبقى الصحيفة مهددة بعد طباعتها، بعدم توزيعها لدى باعة الصحف المصريين، وهو ما كان يعني مخاطرة مالية كبيرة ودائمة لأي ناشر صحفي، مهما كانت علاقاته بمسؤولي الرقابة حسنة، ومهما قرر أن يبتعد عن الخطوط الحمراء، لأن الخطوط الرقابية الحمراء في مصر كانت وما زالت متغيرة بشكل غير مفهوم، مهما ظن البعض أنه قد أحاط بها فِهماً.

في ظل هذا الوضع الزئبقي، تعرضت صحف ومجلات كثيرة للمصادرة بسبب موضوعات فنية واجتماعية كانت تبدو عادية، أو حتى بسبب أخبار في صفحات الحوادث والمجتمع، مع العلم أن كثيراً من المواد الصحفية التي جلبت لأصحابها المصادرة ووجع القلب، كانت تُنشر بشكل عادي ودون أي مشاكل في الصحف المصرية، وخصوصاً في الصحف الحزبية التي كانت تحظى بهامش واسع في الحركة، في تلك السنين المباركية التي لم تكن قد شهدت صدور الكثير من الصحف السياسية المستقلة. حين صدرت صحيفة (الدستور) في نهاية عام 1995، لم يكن هناك صحف سياسية مستقلة تصدر في الأسواق، باستثناء صحيفة (الأسبوع) التي نجح صاحبها مصطفى بكري بحكم علاقاته القوية في إصدار ترخيص مصري لها، وحتى صحيفة (النبأ) الأسبوعية التي كان يملكها ممدوح مهران، وكانت تمتلك رخصة مصرية، لم تكن مهتمة بالسياسة في ذلك الوقت بقدر اهتمامها بالحوادث والفضائح لتكون أبرز وأنجح ممثل للصحافة "الصفراء" في مصر، وهو ما تغير بعد وفاة ناشرها ممدوح مهران وتولي أبنائه مسؤولية إدارة الصحيفة. 

في الوقت نفسه، كانت (الدستور) قد نجحت في التحايل على كثير من القيود الرقابية بفضل شطارة وفهلوة ناشر الصحيفة المرحوم عصام إسماعيل فهمي، وخبرته العريضة في التعامل مع الأجهزة الرقابية، فقد كان قبل إصداره للصحيفة يمتلك مع شقيقه سمير شركة (ساوند أوف أمريكا) للكاسيت التي اشتهرت في البدء بتوزيع الألبومات الغنائية الغربية لجمهورها المتعطش للحصول على الجديد باستمرار، ثم بإنتاج بعض ألبومات محمد منير الناجحة، ثم أنشأ بعدها دار نشر (سفنكس) التي نشرت عدداً من الكتب الرائجة للكاتب اللامع عادل حمودة وتلميذه وأبرز مساعديه في مجلة (روز اليوسف) الأستاذ إبراهيم عيسى.

تمكن عصام فهمي بفضل علاقاته الواسعة والمنتظمة بموظفي الرقابة، من "تجنيد" مسؤول من الدرجة المتوسطة داخل مكتب الرقابة، ليقوم مقابل مبلغ مالي شهري، بالمجيء إلى مقر توضيب وتجهيز الصحيفة ليلة الطبع، ليقوم بالاطلاع على كامل موادها، ويوصي بشطب ما لا يمكن السماح بنشره، طبقاً للتعليمات الأمنية الثابتة لدى الرقابة، ليصبح علينا أن نبتكر له بدائل، فإن كان موضوعاً كاملاً يرى الرقيب أنه يستحيل السماح به حين عرضه على الرقابة رسمياً، قمنا بإيجاد بديل له، أو قمنا بالتفاوض معه على تغيير عنوانه أو حذف بعض فقراته بشكل يضمن تمريره في الغد، ليتم طبع الصحيفة فجر كل ثلاثاء، بعد أن يوافق الرقيب "ودياً" على أن ما بداخل العدد، لا يهين رئيس الجمهورية وكبار مسؤولي الدولة، ولن يقوم بزعزعة استقرار الدولة، ولن يهدم ثوابت المجتمع، ولن يخالف الدستور والقانون، وهي موافقة كانت في الغالب الأعم تصدر بشكل رسمي ظهر الثلاثاء، حين يقرأ بقية الرقباء العدد مطبوعاً، فيجيزون توزيعه لدى باعة الصحف عبر شركة (الأهرام) للتوزيع.

برغم ذلك الاختراق الودي لجهاز الرقابة، الذي أصبح مع الوقت عُرفاً مارسته صحف كثيرة حاصلة على تراخيص أجنبية، كانت صحيفة (الدستور) عرضة كل أسبوعين أو ثلاثة، لمن يتهمها في بلاغات رسمية وعرفية بزعزعة استقرار الدولة وهدم ثوابت المجتمع ومخالفة الدستور والقانون، ويتهم الرقابة على المطبوعات بالتقصير في دورها في حماية المجتمع مما يرد بالصحيفة من أفكار هدامة، ولأن "الإفراج" عن الصحيفة ـ طبقاً للمصطلح المستخدم رقابياً ـ لم يكن من دور رقيبنا "الودي" وحده، فقد كان يحدث أحياناً أن يكون هناك رأي آخر لرئيسه لطفي عبد القادر، الذي ارتبط به منصب مدير جهاز الرقابة على المطبوعات، بعد أن لبث فيه سنين عدداً، وكان بحكم خبرته الطويلة كرقيب، يدرك أن بعض الموضوعات ستثير زوابع بعد نشرها، فيبلغ عصام إسماعيل فهمي، بأنه لا بد من أن يستأذن رؤساءه في وزارة الإعلام قبل الإفراج عن الصحيفة، وكان رئيسه المباشر وزير الإعلام المزمن صفوت الشريف، الذي لم يكن يكتفي بسلطاته المباشرة على الصحف الحكومية، بل كان يمارس سلطة غير مباشرة على الصحف الحزبية والمستقلة، سواء كانت حاصلة على ترخيص من داخل مصر أو خارجها.

ولأن أحداً لم يكن يدرك طبيعة الحسابات التي تدور في عقل صفوت الشريف، فتجعله يقرر الإفراج عن عدد بالكامل، أو مصادرته بالكامل، أو طلب تغيير بعض مواده، كان عصام إسماعيل فهمي يقوم صباح كل ثلاثاء بطبع كمية صغيرة من كل عدد، خصوصاً حين يدرك أن هناك موضوعاً أخطر من أن يعبر رقابياً، ليتفاوض فيما بعد على تغيير بعض عناوينه بدلاً من حذفه، وليتم إلصاق قطعة تحتوي العنوان البديل على اللوح الزنكي المستخدم في الطباعة، وكانت تلك التجربة المريرة هي التي تدفع الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير (الدستور)، إلى بذل مجهود في اختيار موضوعات مثيرة لاهتمام القارئ، ويمكن أن تمر بسلام من تحت مقص الرقيب في ذات الوقت، وربما لذلك اشتهرت (الدستور) في ذلك الوقت بموضوعاتها المثيرة للجدل عن التاريخ المصري القديم والحديث والمعاصر والدين والثقافة والفن والقضايا الاجتماعية، التي لم تكن تجد الرقابة مشكلة فيها، طالما لم تكن تهاجم مباشرة رئيس الجمهورية أو وزارة الإعلام أو الأجهزة الأمنية.

وحين تمكنت (الدستور) من فرض نفسها على الساحة الصحفية في مصر، وأصبح تعرضها للمصادرة يمكن أن يسبب مشكلة سياسية للحكومة، أصبح موقفها السياسي والصحفي أقوى، وأصبح بمقدورها أن تنشر موضوعات أكثر جرأة تخص الشأن الداخلي، وتهاجم سياسات الأجهزة الأمنية، وكان ذلك يؤدي إلى اعتراض عصام فهمي نفسه على بعض ما تزمع الصحيفة نشره، لكيلا يسبب له خسائر مادية، لو تعرض العدد للمصادرة، أو لكيلا يؤثر بعلاقاته السياسية التي بدأت تقوى وتترسخ، وأيقظت بداخله أحلامه السياسية القديمة كعضو قيادي في حزب الوفد.

لكن الحسابات السياسية المحيطة بالصحيفة تغيرت بعد ذلك بشكل مفاجئ، بعد أن أصبح هناك صراع مباشر بين وزارة الإعلام ووزارة الداخلية، وذلك بعد أن نشأت بوزارة الداخلية في عهد الوزير حسن الألفي، وحدة أطلق عليها اسم (إدارة الإعلام الأمني) رأسها اللواء رؤوف المناوي، الذي كان زوجاً لسناء قابيل الصحفية بمجلة روز اليوسف، وابن عم الصحفي عبد اللطيف المناوي الذي كان يعمل في مجلة (المجلة) اللندنية وقتها، ثم رأس قبل فترة من ثورة يناير قطاع الأخبار أو "انقطاع الأخبار" كما كنت أفضل أن أسميه، وبفضل معرفة رؤوف المناوي الوثيقة بالوسط الصحافي وزخانيقه، قامت وزارة الداخلية من خلال تلك الوحدة بتوثيق علاقاتها برؤساء تحرير الصحف والمجلات كافة، بدعوى التكاتف بين الصحافة والداخلية في محاربة الإرهاب.

اعتبر صفوت الشريف عمل تلك الوحدة، تدخلاً مباشراً في مهامه وتهديداً لنفوذه على الصحافة، الذي كان بسببه يتمتع بنفوذ لدى حسني مبارك، تماماً كما كان فاروق حسني يتمتع بنفوذ لدى مبارك، بفضل سيطرته على كبار المثقفين وعلاقاته المباشرة معهم، وفي هذه الظروف، وبفضل غضب صفوت الشريف على وزارة الداخلية، اتسع صدر الرقابة فجأة، واستطاعت (الدستور) أن تنشر طوال عام 1997 عدداً من الموضوعات الصحفية الجريئة التي تهاجم سياسات وزارة الداخلية، بدءاً من اختلال معايير القبول في كلية الشرطة، والعلاقة المتوترة بين وزير الداخلية ورئيس مباحث أمن الدولة، ووصولاً إلى الحديث عن بعض انتهاكات الضباط في أقسام الشرطة، كما نشرت موضوعات عديدة تتخطى بعض الخطوط الصحفية الحمراء، من بينها الموضوع الذي أوصلني في النهاية إلى أن أكون شريكاً في كلبش واحد مع حرامي الأنبوبة.

بالطبع لم يكن يعلم القراء المبهورون بشجاعة (الدستور)، أن نشر تلك الموضوعات، لم يكن وراءه ارتفاع مفاجئ لسقف الحريات المنخفض في البلاد، بل كان وراءه في الحقيقة تصفية طاحنة للحسابات بين "مماليك" مبارك، وهو ما لم يكن سيتوقعه القارئ العادي الذي يرى جميع أولئك المماليك ماثلين بكل رضا وحبور في حضرة الرئيس الأزلي خلال اجتماعاته وجولاته التفقدية، وهو أيضاً للأمانة ما لم يكن كتاب (الدستور) وصحفيوها مسؤولين عنه، لأنهم كانوا قبل كل شيء وبعده يؤدون عملهم بكفاءة وإخلاص، ويكتبون ما هم مقتنعون بأهمية وصوله للقارئ، تاركين فرصة مروره إلى القارئ للظروف السياسية المتغيرة، التي انتهت تقلباتها في فبراير 1998، بصدور قرار حاسم بإغلاق الصحيفة، بعد أن وقعت في فخ نصبتها لها الأجهزة الأمنية بعد مذبحة الأقصر، حين نشرت بياناً منسوباً إلى الجماعة الإسلامية التي نفذت مذبحة الأقصر، يتوعد رجال الأعمال الأقباط بالتحديد بتنفيذ عمليات موجعة ضد مصالحهم وشركاتهم.

كان ذلك البيان قد وصل ـ بالصدفة أو بحيلة شديدة الذكاء، لا أدري بالتحديد حتى الآن ـ إلى مكتب وكالة الأنباء الفرنسية بالقاهرة عبر الفاكس، الذي كانت تعمل فيه الصحفية الأستاذة منى سالم زوجة مدير تحرير الدستور الأستاذ جمال فهمي، وحين رفضت وكالة الأنباء الفرنسية نشر البيان لعدم قدرتها على التحقق من صدقيته، قامت منى سالم بإعطائه لزوجها جمال فهمي، الذي أعطاه لإبراهيم عيسى الذي رأى فيه خبطة صحفية، وتسرع بنشره على صفحة كاملة وأفرد له عنواناً كبيراً في الصفحة الأولى، ليحدث ذلك النشر حالة من الرعب في أوساط رجال الأعمال، ومن بينهم المهندس نجيب ساويرس صديق (الدستور) الأول، بل ولنقل إنه ظل لفترة طويلة صديقها الوحيد، فقد كان يدعمها بإعلان أسبوعي منذ عددها الأول، وكان قبل نشر ذلك البيان يقوم بالتحضير مع إبراهيم عيسى لإصدار جريدة فنية تحمل عنوان (ألف ليلة) ودفع مبلغ مائة ألف جنيه لتجهيز أعدادها التجريبية.

لذلك أصيب نجيب ساويرس بصدمة بعد نشر البيان في (الدستور)، لأنه رآه في نهاية المطاف تشجيعاً على استهداف مصالحه، في فترة كانت الأعصاب منفلتة بعد مذبحة الأقصر، وهو ما جعله يقوم بتصعيد الأمر إلى حسني مبارك خلال أحد الاجتماعات التي جمعت مبارك برجال الأعمال، ويشكو علناً من (الدستور) ومجلة (روز اليوسف) التي علقت أيضاً على البيان في إحدى تغطياتها الصحفية، فيصدر حسني مبارك قراراً فورياً بإغلاق (الدستور) فوراً وإطاحة عادل حمودة من منصب نائب رئيس تحرير مجلة (روز اليوسف)، ولأن عادل حمودة كان مقرباً أكثر من النظام، فقد تم تعويضه بمنحه مقالاً أسبوعياً في صحيفة (الأهرام)، فيما أُطيح إبراهيم عيسى ومن معه إلى الشارع، وهو ما لم يستسلم له عصام إسماعيل فهمي وإبراهيم عيسى، حيث بدآ بمحاولة إصدار العديد من الصحف التي صادرتها الأجهزة الأمنية الواحدة تلو الأخرى، وبدأ عصام فهمي بخوض معركة قانونية للحصول على حكم قضائي يتيح له الحصول على رخصة لإصدار صحيفة (الدستور) من داخل مصر، وهو ما حدث بعد ذلك بكثير، وبالتحديد في عام 2005.  

طوال الوقت الذي سبق إغلاق الإصدار الأول لصحيفة (الدستور)، كان التعامل الأسبوعي مع ذلك الرقيب "العرفي" واحداً من مهامي الثابتة، بوصفي سكرتيراً للتحرير، وقد كانت التجربة بكل تفاصيلها العبثية، من أكثر التجارب أهمية وإفادة في حياتي المهنية، خاصة بعد أن أصبحت مع مرور الوقت صديقاً لذلك الرقيب الأريب، الذي لا أعرف أين أراضيه الآن، فحين كانت الصفحة الأولى تتأخر في التجهيز، بسبب انتظارنا لبعض التقارير المهمة لكي تردنا من صحفيي قسم الأخبار، كنت أذهب أنا وهو إلى مسمط شهير بمنطقة الناصرية القريبة من مقر تجهيز الصحيفة، التي كنا نقوم بتجهيزها في القسم الفني بصحيفة (العربي) الناصرية الكائنة بشارع يعقوب المتفرع من ميدان لاظوغلي بوسط القاهرة.

كان ذلك الرقيب النحيل يعشق النيفة بشكل جنوني، وكنت من عشاق الفتة والممبار والسجق، وكان يلفت انتباهي حرصه الشديد على أن يدفع حسابه كل مرة، لأنه لا يقبل أن يأكل على حساب أحد، مع أنه في حقيقة الأمر لم يكن سيتمكن من دفع حساب النيفة لو لم يكن يمارس ذلك العمل غير القانوني الذي يكسب من ورائه أضعاف ما يكسبه من مرتبه الحكومي، وأذكر أنني حين سألته مرة عما سيحدث له، لو عرف أحد ما يقوم به، رد بإجابة هي من أبلغ ما سمعته في حياتي حتى الآن، حيث أمسك بقطعة نيفة ولوّح بها في وجهي قائلاً: "ما هو مش أنا لوحدي اللي باكل نيفة"، فصارت من وقتها مثلاً يحضرني كلما حضرت سيرة فساد صغير أو كبير.

لذلك ولذلك كله، حين تسلمت ورقة الاستدعاء العاجل إلى النيابة، أدهشني أن أعرف أن سبب الاستدعاء موضوع صحفي شاركت فيه مع الزميل سمير عمر ـ مراسل قناتي الجزيرة وسكاي نيوز فيما بعد ـ كان يحمل عنوان (من وراء اغتيال المشير أحمد بدوي)، فقد نُشر ذلك الموضوع قبل شهور طويلة من إغلاق الصحيفة، ولم يعترض عليه الرقيب "العرفي" حين قرأه، كما لم تعترض عليه الرقابة رسمياً حين رأته مطبوعاً في العدد، وزاد استغرابي حين قال لي المُحضَر الذي سلمني الاستدعاء، إنه يحمد الله لأنه وجدني سريعاً في المقر، لأنه تلقى تعليمات من رئيس النيابة بأن يرابط في مقر الصحيفة حتى يسلّم الاستدعاء لي ولزميلي سمير عمر، ولم يكن المحضر حريصاً علينا في الحقيقة بقدر ما كان حريصاً على أن يشاهد في بيته ووسط عياله مباراة مصر وجنوب أفريقيا في نهائيات كأس الأمم الأفريقية التي تزامنت مع إغلاق الصحيفة، لأن المحضر كما قال لي يتفاءل بالفرجة مع عياله، وكان يتوقع من أجل المصلحة الوطنية أن أساعده في الوصول إلى سمير عمر، لكي لا يضيع عليه الماتش وتحدث عكوسات تؤدي إلى خسارة مصر للكأس المنتظر.    

كان سمير عمر قد قام في ذلك الموضوع المشترك بسؤال بعض الشخصيات العسكرية السابقة المرتبطة بالمشير أحمد بدوي عن ملابسات واقعة مصرعه المفاجئ، فيما قمت بعرض مطول لكتاب ألفه الصحفي اللامع محمود فوزي يتضمن حوارات مع بعض شهود الواقعة الغامضة، وقمت بعدها بصياغة ما كتبه كل منا في موضوع واحد، ولأن ما قام به سمير كان عملاً ميدانياً به مجهود أكبر، فيما كان ما قمت به عملاً مكتبياً به مجهود أقل، فقد حرصت على وضع اسمه قبل اسمي، وحين اقترح أحد الزملاء في الإشراف الفني أن نقوم بتبديل الاسمين، بوصفي سكرتير التحرير، رفضت معتبراً أن ذلك لا يليق بالمجهود الذي بذله سمير، ولم أكن أدري وقتها أن ذلك التصرف البسيط، سيكون سبباً هو والرقيب ورسالة أحد القراء في إخراجي بأعجوبة من ورطة مستقبلية، كان يمكن أن أدفع ثمنها "سنتين سجن" على أقل تقدير.

لم يكن موضحاً في ورقة الاستدعاء من الذي قام بالضبط بتقديم ذلك البلاغ ضدنا، ولم تفلح "كوباية شاي بثلاث معالق سكر وسيجارتين" في إقناع المُحضَر بأن يعطيني معلومات أكثر هي في الأصل من حقي القانوني، خصوصاً أن فرائصي كانت قد ارتعدت، حين وجدت ضمن توصيف التهمة الموجهة إلينا عبارة "إفشاء أسرار عسكرية"، فقد تذكرت أن صديقاً أقدم منا في المهنة يعمل في مؤسسة قومية، قال لنا عقب نشر الموضوع، إنه يستغرب كيف أجازت الرقابة نشره، خاصة أنه يتعلق بقضية عسكرية كان الجيش وحده الذي قام بالتحقيق فيها، خاصة وقد كان في الموضوع الذي نشرناه ما يشير إلى وجود تواطؤ من بعض قادة الجيش أيام حكم أنور السادات على إغلاق تلك القضية بشكل سريع لا يتناسب مع خطورتها.

لم يكن لارتعاد فرائصي علاقة فحسب بما كان يعرفه كل صحفي وقتها، عن خطورة الوقوع في خصومة صحفية مع القوات المسلحة، لأنها ستجلب لصاحبها محاكمة عسكرية فورية، وسجناً لا يعلم مدته ولا مكانه إلا الله، في أيام لم تكن صعبة وبائسة كأيامنا هذه، لكنها لم يكن فيها وسائل اتصال اجتماعي تتضامن مع المحبوسين، أو قنوات فضائية تبث من خارج مصر، يمكن أن يمر صوت المظلومين من خلال بعض برامجها، أو منظمات حقوقية قد يشكل أداؤها ضغطاً خارجياً، يمكن أن يكون له أثر ما، بالتحديد في ساعات زنقة النظام وحاجته إلى المعونات والمنح اللازمة للنهب، فبالإضافة إلى إدراكي لذلك كله، كنت قبل بضعة أشهر من ذلك الاستدعاء، قد مررت بتجربة مريرة قصيرة بسبب واقعة نشر عادية، لم يكن يخطر على بالي أنها يمكن أن تصنف بوصفها جريمة عسكرية، وسأرويها لك الآن، لأضعك في الأجواء أكثر، أو ربما لأنني لا أضمن أن تأتي فرصة أنسب لحكيها.

(2)

شوف يا سيدي، كانت صحيفة (الدستور) تصل إلى فَرشات وأكشاك باعة الصحف في القاهرة بدءاً من ليل الثلاثاء، فيما كانت تباع في بقية المحافظات صباح الأربعاء، ولذلك كان مقر (الدستور) يخلو من أغلب العاملين فيه يومي الثلاثاء والأربعاء، وهو ما كان يشجعني على الذهاب إلى المقر لاستغلال هدوئه، في إنجاز مهامي الأسبوعية، وعلى رأسها كتابة صفحة البريد التي كانت تحمل عنوان (صوتٌ عالٍ وصدى أعلى)، وكانت واحدة من أنجح صفحات (الدستور)، ثم البدء بكتابة تحقيق أو عرض كتاب أو الإعداد لحوار صحفي، لكي لا أُدفن كصحفي بفعل عملي المرهق كسكرتير للتحرير، فضلاً عن قيامي كل أسبوع بأداء مهام ما يعرف بـ (الديسك) أو إعادة الصياغة، التي كان يشاركني فيها بدءاً من مطلع العام الثاني في عمر الصحيفة، صديقي حمدي عبد الرحيم الذي كان يحرر الصفحة الثقافية أيضاً، وصديقي أكرم القصاص الذي كان يعمل وقتها بصحيفة العربي الناصرية، ولذلك كان يوقع مقالاته باسم (أكرم حسين)، وكنا نتشارك معاً في غرفة متناهية الصغر، استحقت عن جدارة لقب (الزنئور).

كنت أحتل المكتب الأكبر داخل (الزنئور)، باعتبار أن مهامي كانت أكبر، فيما حظي حمدي بواحد من أصغر المكاتب في تاريخ الأثاث البشري، وكان أكرم يضطر في اليومين اللذين يحضر فيهما للعمل، إلى الجلوس على كنبة مجاورة لمكتبي، تحتل ما بقي من فضاء (الزنئور)، مستنداً إلى طرف المكتب لينجز عمله، ومبدياً من حين لآخر ضيقه المبرر من رائحة العرق الملتصقة بحشية الكنبة الإسفنجية الرخيصة، التي كنت أحولها إلى سرير في ليالٍ كثيرة، لتوفير أجرة التاكسي الذي لم أكن أجد غيره في أنصاص الليالي، لكي يقلني إلى حيث كنت أسكن في حارة سمكة بالجيزة.

كنت في أحد الأربعاءات، منهمكاً في فرز رسائل البريد، التي كانت ترد إلى الصحيفة بالمئات كل أسبوع دون مبالغة، فلم نكن قد عرفنا بعد عصر الإيميلات والمنشنات والبوستات والإنبوكسات، وكان العاملون في الصحيفة يعلمون أن دخول (الزنئور) في ذلك الوقت أمر غير مستحب، لأنني كنت أقوم بتصنيف الرسائل بعد فردها على سطح المكتبين والكنبة وبلاط (الزنئور)، ليساعدني ذلك على اختيار ما يستوجب النشر السريع منها، وما يجب أن يذهب إلى أصحاب الشأن من الزملاء للرد عليه أو متابعته في صورة أخبار أو تحقيقات، وما يجب أن يذهب إلى سلة المهملات، التي لولاها لغصّت مقرات الصحف بما يرد إليها من رسائل.

فوجئت خلال أداء تلك المهمة العسيرة، بعامل البوفيه وقد فتح الباب بقوة، لتطير الرسائل المتراكمة على سطح المكتب الملاصق للباب متناثرة في جنبات (الزنئور)، وقبل أن أصرخ فيه غاضباً، وجدته يصرخ بفزع من رأى الثعبان الأقرع لتوّه: "الحقني يا أستاذ بلال.. الجيش دخل الجرنان"، ولأنني كنت أعلم علاقته الوطيدة بالبانجو، الذي كان يفضله على الحشيش، ليس فقط لأنه أرخص وفي متناول يده العاملة، بل لأنه أشد وطأة على طاسة النافوخ، فقد كان نصيبه مني شخرة اسكندرانية، اجتهدت في تجويدها لعلها تفيقه من "سطلته" المزمنة، وقبل أن ينصبّ من فمي شلال شتائم "مِشكّلة" ومتعارف عليها، وجدته يقفز عابراً المكتب الصغير وقد داس على الرسائل، ليضع يده على فمي، وقد تحول صراخه إلى همس متحشرج، وصلني منه بوضوح عبارة تقول: "ما توديش نفسك في داهية يا ريّس.. أكسوم بالله زمبئولك كده.. الجيش دخل الجرنان".

و"الجيش الذي دخل الجرنان"، لم يكن سوى قوة مكونة من ضابط شاب وثلاثة عساكر، وجدتهم حين خروجي لاستطلاع الأمر، يجلسون إلى جوار مكتب السكرتيرة الفارغ في مدخل المقر، منتظرين قدومي أنا بالذات، كما قالوا لعامل البوفيه المذعور، الذي كان قد حاول "زحلقتهم" من المقر بالقول إن رئيس التحرير لا يحضر في هذا اليوم، وأنهم يمكن أن يأتوا لمقابلته يوم الجمعة، فأخرج الضابط أوراقاً من ملف كان يمسكه، وقال له بحزم إنه لا يريد مقابلة رئيس التحرير، بل يريد مقابلة فلان الفلاني الذي ينزل اسمه على رأس هذه الصفحة، مشيراً إلى رأس صفحة البريد المنتزعة من العدد الذي صدر في ذات ذلك اليوم.

قبل أن أخرج لملاقاة مصيري، كان عامل البوفيه قد انهار طالباً مني العفو والسماح، لأن المفاجأة لم تعطه فرصة لارتجال كذبة، فيدعي أنني غير موجود أو مسافر أو تركت العمل في الصحيفة، لتزيدني طريقته في التعامل توتراً، وحين أخذت أبحث عن حذائي في جنبات (الزنئور) المغطاة بالرسائل، كان توتري وقلقي يزيدان بفعل أسئلة عامل البوفيه المتلاحقة عما إذا كنت هارباً من التجنيد، وعن طبيعة ما كتبته في صفحة البريد وأغضب الجيش إلى هذا الحد، وعما إذا كنت أعرف "حد تقيل" في الشرطة العسكرية، وعن إمكانية أن نتصل بالأستاذ عصام أو الأستاذ إبراهيم ليشوفا لهما حلاً في ما أصبح يصفه بأنه مصيبة ووقعت على رأسي، قبل أن أعرف أصلاً كُنهه.

ومع أن توتري بلغ أقصى ذراه، بمجرد أن رأيت الضابط وعساكره بملابسهم "الميري" في مدخل الصحيفة، وقد كان ذلك مشهداً غير مألوف بالمرة في ذلك الوقت، إلا أن أعصابي سرعان ما هدأت قليلاً، حين وجدت الضابط يستقبلني بشكل ودود، لأفهم سر مودته حين قال لي إنه يقرأ (الدستور) بانتظام، وإنه معجب ببعض ما أكتبه وبالأخص ردودي الساخرة على القراء في صفحة البريد التي يتابعها بشغف، فحمدت الله في سري وأثنيت على كرمه، وبدأت أستمع بهدوء إلى الضابط الذي قال إنه ينتمي إلى وحدة عسكرية لها رقم ما نسيته الآن، لكنها ليست تابعة لإدارة الشؤون المعنوية، بل لما يسمى جهاز الاستطلاع الحربي، وأن وحدته تلك تقوم بعمل جرد لكل ما ينشر في الصحف عن القوات المسلحة، للتوقف عند ما يمكن تصنيفه بأنه أسرار عسكرية أو شؤون حربية.

عاد توتري للتصاعد بفعل ما قاله الضابط، وأنا أحاول أن أجرد في داخل ذهني سريعاً، كل ما نشر في الصفحة المدعوقة، لأفهم علاقته بالأسرار العسكرية، وحين أخرج الضابط من ملف يحمله صفحة البريد التي كشفت ذلك السر العسكري الخطير، وجدت دائرة حمراء تحيط بشكوى صغيرة منشورة في ذيل الصفحة تقريباً، يشكو فيها مواطن بمحافظة القليوبية من ضياع محفظته التي تحوي بطاقته الشخصية ورقمها كذا وبطاقته العسكرية ورقمها كذا، ليقول لي الضابط إن مجرد نشر رقم بطاقة عسكرية يعتبر مخالفاً للقانون، لأن أحداً يمكن أن يستغل ذلك الرقم في تزوير بطاقة عسكرية، واستخدامها في أعمال غير شرعية، وأنه كان من واجبي أن أمتنع عن نشر بيانات عسكرية كهذه، لكي لا أقع تحت طائلة القانون.

...

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.