أمومة ضائعة

07 فبراير 2025
+ الخط -

ليس جديدًا علي أن يجف حبر قلمي من حين لآخر.. يستغرق ذهني في خمول وكسل فكري مألوف كلما ازدحمت عليه أحداث تضفي على حياتي شيئًا من المغامرة التي تبدد طابع الملل والتكرار فيها، لكن هذا التغيير يسرق كلماتي ويذهب بأفكاري إلى بعد ثالث لا عهد لي به. أجلس مجابهة بياض صفحات مذكرتي، أنتظر قبول سيل من الأفكار لكي أخط أحاسيسي على الورق وأخفف عن نفسي عبء الصوم عن الكتابة، إلا أن عقلي يأبى إلا أن يشاكسني ويحملني إلى أماكن بعيدة عن مبتغاي ووجهتي الأدبية. ليس بالأمر الهين أن تفقد التحكم بمقود العقل، أن تدرك الحكمة ثم تفقدها، أو أن تعرف الحقيقة وتتركها تذهب أدراج الرياح.

لفظتني الأمومة تمامًا مثل ما لفظتني الكتابة. رمت بي إلى قارعة القدر لتفترسني ألسنة الناس جميعًا. عندما صدحت ابنتي بأولى صرخات الحياة، اتضح لي أخيرًا أن الكتابة عن الأمومة تختلف جذريًا عن ممارستها والاستسلام لها، وأن عقد الطفولة وكوابيسها تلاحقنا حتى سنوات الرشد إن لم نعالجها قبل فوات الأوان. أمسكت رضيعتي بين ذراعي وتأملت سحنتها القمحية، عينيها اللوزيتين وشعيراتها الملساء. استنشقت عبير رائحتها، مسك الجنة الفائح، هديتي من الله... لكنني رغم كل هذا ألفيت نفسي عاجزة عن إرضاعها أو التودد إليها. بدت كالحمل الوديع للممرضات اللاتي كن يلاعبنها بدافع الشفقة، وصورها لي قلبي كتلة عارٍ وذنبًا عظيمًا لا رجعة فيه. حملت ذنبي بيدين مرتجفتين ودعوت الله في جوف الليل أن يقذف في قلبي الرحمة والمحبة تجاه من أنجبه رحمي ورفضه فؤادي.

وكمن أمسك به الموت من تلابيبه، أخذ عقلي يسترجع كل أخطائي في هذه الحياة وما قبلها، أخطاء أمي وجدتي وغيرهن من نساء العائلة. تصورت لبضع دقائق أنني أدفع ثمن ذنوب لم أتب عنها، وعدت إلى الصلاة بعد انقطاع. هنا تجلت الحقيقة، أطلت علي في وقت صعب علي استيعابها كاملة أو الإقرار ببراءتي منها. ورغم أنني أمسكتها بيدي وتحسست ملمسها لأول مرة، فقد استحال علي أن أملكها تمامًا. تذكرت أمي التي حذرتني كثيرًا من احتمال اندثار هويتي وفردانيتي بعد أن تحبسني الأمومة في قعر المسؤولية المنوطة بي تجاه أطفالي. حاولت أمي تحذيري مما هو آتٍ لا محالة، ولكنني عميت عن واقع الأمر... كل ذلك كان بسبب الحب الذي يعمي بصيرة المرء ويستدرجه نحو قدره الأخير.

قبل أمومة الغفلة، تساءلت كثيرًا عما كانت عليه أمي قبل الزواج، لكنني لم أتجرأ على طرح هذا السؤال من قبل. لطالما ادعيت كوني امرأة معاصرة على خلاف زمرة النساء التقليديات في العائلة، لكنني في الوقت نفسه كنت أترفع على واقعهن المعاش، وظننت أنني بالعلم الذي نلته في المدارس والجامعات قد تجاوزت حياة النساء الضعيفات اللاتي يعشن حياة خالية من أي معنى، على هامش رجل يبقيهن في الحضيض.

عندما أحببت زوجي وأهديته استسلامًا بطعم الانتصار، كنت على يقين أنه لن يخذل استسلامي، أنه سيحبني إلى آخر العمر ولن يسعى لحبسي في إطار امرأة تقليدية مثالية، وأن كونه ناشطًا يساريًا تقدميًا يجعله ذا مناعة قوية ضد التصورات الاجتماعية لما يجب على المرأة أن تكونه. أثبت لي الزمن والتجربة أن استعلائي على آلام النساء الأخريات كان ضربًا من الجنون، حمقًا تصاب به المرأة العصرية لمجرد أنها نالت شيئًا من الاستقلالية والحقوق، والتحقت بالمؤسسات التعليمية والإدارية على غرار الرجل. ثم جاءت أمومة الغفلة لتعلمني أن آلام النساء تتشابه مهما اختلفت وتباينت، وأن وضعي الراهن بصفتي كاتبةً وامرأةً متعلمةً لن يجنبني بالضرورة تجارب قاسية كتلك التي عاشتها النساء قبلي عبر التاريخ.

لكن الأمومة ليست السجن الحقيقي الذي تموت فيه أرواح النساء وأجسادهن، بل هي توقعات المجتمع وانتظاراته، تلك السياط الموجعة التي تهوي بها العشائر على أجساد النساء وقدسية الأسرة

تأتي الأمومة أحيانًا بوعود الشفاء، تمنحنا اطمئنانًا كاذبًا لكي نستسلم لعملية التحول من نساء عاديات إلى نساء خارقات حتى إن كنا لا نطمح إلا لبساطة المشاعر وحرية الأحاسيس. تسلب منا الإرادة لتثبت فينا ما يدعى بالغريزة، رغم أنها في واقع الأمر لا تأتي بالجديد وإنما تكتفي بإعادة تلقين ما زرعه المجتمع في عقولنا الفتية عن الفطرة السليمة التي تجعل الواحدة منا تحن إلى الأمومة منذ لحظة بلوغها. تأتينا كموت مؤجل يجعلنا نستسلم لهوية جديدة، وحياة جديدة، وهموم مضافة. بعد الاستسلام الذي يضفي على حيواتنا شيئًا من الراحة، يأتي الندم المر على ما فات. قد يأتي هو الآخر على هيئة نظرة قصيرة تجاه جسد أصغر لم تشمله تعديلات القدر، أو ابتسامة صغيرة تنفرج عنها شفتا الرجل الذي تحبينه كلما نظر إلى امرأة ما زالت تنبض طاقة وحيوية، أو على شاكلة ذكريات الماضي البعيد قبل أن تستنزف اختياراتك في الحياة قوتك ورغبتك في البقاء على قيد الحياة.

لكن الأمومة ليست السجن الحقيقي الذي تموت فيه أرواح النساء وأجسادهن، بل هي توقعات المجتمع وانتظاراته، تلك السياط الموجعة التي تهوي بها العشائر على أجساد النساء وقدسية الأسرة. لا تقتلنا الأمومة فقط لأن أجسادنا ترفضها أحيانًا، بل لأننا غالبًا ما نترك في عزلتنا نصارع الرفض وحدنا دون أن نعتنق الموافقة بالضرورة. تنتزع منا أفواه غريبة حقنا في الاختيار، حتى نفقد الرغبة في اتخاذ القرارات مهما بلغنا من العلم مبالغ عليا. أعتقد أنه بوسعي اليوم أن أعترف لنفسي وللآخرين أن أعدل الأشياء قسمة بين النساء الألم، وأن النجاح الأكاديمي أو المهني لا يدفع عنا من الألم شيئًا وإنما يساعدنا على حل هذه المعضلة فحسب.

أعترف أيضًا أن التنحي عن المسؤوليات المنوطة بالأمومة ترف يرتبط بالجانب الاقتصادي أكثر من أي شيء آخر، لكنه في الوقت نفسه يسرق منا تلك اللحظات التي تومض كالنجوم المشتعلة في سماء الحياة. وأخيرًا، أعترف أن هذا الاعتراف ليس سوى مرثية في حق أمومة ضائعة.

آية العزوق
أية العنزوق
كاتبة وطالبة جامعية باحثة في مجال علم النفس، مهتمة بالقضايا السياسية والاجتماعية. لها عدّة مقالات وقصص قصيرة في الصحف والمجلات. تعرّف عن نفسها بقول للكاتبة فرجينيا وولف "رغبتي للحُب لم تخبو وتذبل، فما تزال بداخلي أحاسيس التوق والهيام ولا أستطيع أن أُظهرها للعلن، أوليست أرق وأعذب المشاعر تِلك التي نجعلها محبوسة بداخِلنا؟!".