أفلت يدك.. هذا أجمل

13 مارس 2025
+ الخط -

جمعتني حركةٌ احتجاجيّة بشابٍ لطيفٍ فيما قبل الثورة، ظللنا نُلحقُ اسمه بـ "فلان فكرة" على سبيل السخرية من فرط ترديده لأننا كلّنا مجرّد أفكار؛ وجودنا وأشكالنا والحياة بما فيها والأشياء من حولنا، فقط مجرّد أفكار، نتناقلها فتترسّخ، ولو نفاها ذهننا لانتفت.
قبل ليلاتٍ ليست بعيدة، صلّيتُ التراويح بمسجد طفولتي وصباي، قدمي بقدم أبي، وحولنا تغيّر الدهان والسجّاد، وأضيفت إليه تفاصيل لم تغيّر ممّا كانه قديمًا.

أغمضتُ عينيَّ، ووجدتني ذات الطفل الذي كنته، بجانب أبي أيضًا في رمضان آخر قبل بضعٍ وعشرين سنة. كنتُ مطمئنًّا، متحمّسًا، وسعيدًا، على غير ما أنا عليه الآن، في هذه المرحلة، في هذا العمر، وفي هذا اليوم تحديدًا.
حتى فقرة الأسئلة في الاستراحة التي انتظرتها لأخطف الجائزة بعد خطف الإجابة، جاءت، لكن سبقني إليها شابٌّ سبقته في العمر وأثقلني التردّد، أو ربّما عطّلتني المباغتة (لم يكن حلمًا، ما زال كلّ شيءٍ كما هو أو يكاد).

أمكن أن أعود طفلاً ولو لبضع دقائق في صلاة التراويح.

**

بالأمسِ في حوار السُّفرة (بالبيجاما) مع "عمّو زين" عرّجنا على سيرة فؤاد حدّاد ثم صلاح جاهين، ولا يحضر جاهين إلا ومعه "تراب دخان" قصيدته العبقريّة التي ظلّت لسنين طوال، وما زالت وردًا سجنيًّا وحياتيًّا لا ينقطع.

أرسلتها سامية جاهين إلى علاء عبد الفتاح في رسالة بمعتقل ليمان طرة، فطلب علاء مني قراءتها، ومنذئذٍ وهي من أوراد "النظّارة" بيننا، ثم من أوراد المعتقل الانفرادي، وأوراد الاستدعاء وإرسال الطاقة لعلاء عبر المسافات والأسوار.

أميّز الوعي من غيابه، ولا أقعُ في نقيضه إن وقعتُ إلا وركنٌ ما فيَّ يتبيّن الفارق بينهما

عندما تحدّثنا عنها (الأستاذ زين العابدين فؤاد وأنا، بالأمس) حضر علاء، وقلتُها له عبر نظارة باب الزنزانة، بكلّ ما كان في هذه اللحظة التي فات عليها 11 سنة من مشاعر وأفكار وأمل، بكلّ ضيقها وطاقتي فيها.

كنتُ وأنا أقرأ القصيدة، في سيارة التاكسي، وابتهالات لم أتبيّنها في الراديو، وبجانبي سائقُ السيّارة في شمال القاهرة، أرتدي ملابسي وأحمل علبة حلوى وهاتفًا ونقودًا ضمن ما أحمل، لا ملابس زرقاء، ولا قضبان على النافذة وأقفال على الباب، ولا علاء في المقابل.

أمكن أن أعود سجينًا، بصحبة علاء، ولو بعمر قصيدة.

**

أفرُّ من زحام القاهرة وضجيجها ومخبريها إلى شاطئ بعيد كلّما استطعتُ، أو أعانتني نقودي المدّخرات، ولو كلّ أسبوعين، فقط لأتنفّس وأنام (هذا غاية مرادي، من دون مبالغة).

قبل شهور ومن دون مقدّمات سوى الزلزلة التي وقعت على الهواء، وشاهدها الجميع، ظللتُ لأيّام أستيقظ وفي غرفتي المطلّة على الممر المائي، دخانٌ وبارود وعلى كرسيٍّ يجلس يحيى السنوار جلسته الخالدة، أسعل وأكحكح من أثر الدخان والتراب، وأبقى محملقًا فيه بابتسامةِ طمأنينةٍ لا يعكّر صفوها حزن، أستأنسُ به وأخبره ببضع كلماتِ، وأبادله الصمتَ المشحون لبقيّة ساعاتِ وجوده.
لم أحتمل صحبته، على جلالها، فلملمتُ حاجاتي وعدتُ إلى القاهرة.
أمكن أن ألتقي السنوار بغرفتي، ولو بعمر إجازة.

**

أتعاطى مضادّات اكتئاب منذ سنين، لكنّي أميّز الوعي من غيابه، ولا أقعُ في نقيضه إن وقعتُ إلا وركنٌ ما فيَّ يتبيّن الفارق بينهما وينبّهني للحال حتى لا أهذي أو أغرق في الضلالة.

طال أن استعنتُ على واقعي بخيالي، خلّقته على مرادي ورسمتُ كلّ تفصيلةٍ فيه كما أحبّ، ولولا هذا لفقدتُ تماسك ذهني وربّما حياتي، والتخليقُ يمنحك القياد والسيطرة، بدءًا وانتهاءً.

أمّا هذه، فلم أخلّقها، إنّما وجدتني فيها، من دون مقدّماتٍ، وأنا في تمام وعيي وانتباهي، وانتهت هيَ كما بدأت، من تلقاء نفسها. 

أغرقُ في التفسيرات تفكيكًا وتحليلاً وفهمًا، تمامًا كما تعوّدتُ في زنزانتي الانفراديّة، قبل أن يفلت عقالي، لكنّ نفسي توشوشني بتكرارٍ رتيب: أفلت يدك؛ هذا أجمل.

أليس كذلك؟