أعمدة الصمود والنصر في "الشوك والقرنفل"

07 ديسمبر 2024
+ الخط -

انتهيت لتوي من قراءة رواية "الشوك والقرنفل" للشهيد يحيى السنوار التي أنهى كتابتها عام 2004 أثناء احتجازه في سجون الاحتلال. لكن "الشوك والقرنفل" ليست مجرّد رواية، بل وثيقة تاريخية تسرد أحداثاً مهمة عاشها قطاع غزّة على وجه الخصوص، والقضية الفلسطينية بشكل عام، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي وحتى بدايات الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. 

برزت لي من خلال هذا الكتاب ثلاث نقاط رئيسية تُلخِّص الأعمدة التي بُنيت عليها غزّة التي نعرفها ويعرفها كلّ العالم اليوم، بكلِّ ما تمثّله من عظيم إرادة وصمود وتضحيات. يمكن تلخيص هذه النقاط فيما يلي:

(1) وضوح الرؤية الدينية كأساس للتحرّر

بعد هزيمة عام 1967، أدركت مجموعة صغيرة من الأشخاص، الذين أصبحوا لاحقًا مؤسّسي وقادة حماس، أنّ الدين الإسلامي هو الأساس الرئيس لبناء إنسان قادر على تحرير نفسه وأرضه من الاحتلال. فخلال السنوات التي أعقبت الاحتلال، بدأت تتنامى في المجتمع الفلسطيني في غزّة والضفة الغربية مظاهر فساد قيمي وأخلاقي غريبة عن ثقافة المجتمع، مثل التجسّس لصالح الاحتلال وبعض مظاهر الدعارة، التي كانت تُستغل للإيقاع بالشباب الفلسطيني وتجنيدهم لخدمة أجهزة المخابرات.

ردًا على هذا، بدأ القادة الأوائل، وعلى رأسهم الشهيد الشيخ أحمد ياسين الذي كرّس حياته لتربية الشباب على القيم الإسلامية، بتأسيس مجتمع ملتزم دينيًا وأخلاقيًا. بدأت هذه الجهود بدعوة بضعة شبّان للصلاة في المسجد بدلًا من لعب الورق في شوارع المخيّم. ومن هنا وُلدت حركة مقاومة إسلامية قوامها عشرات الآلاف من المقاومين المستعدّين للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن أهلهم ودينهم ووطنهم.

المقاومة بكافة أشكالها، وعلى رأسها المقاومة المسلّحة، هي السبيل الوحيد للنصر والتحرير

الدروس الدينية في المسجد بعد صلاة العشاء كانت تتم بشكلٍ يومي، وبدأت تتسع وتكبر على مرِّ السنين. في تلك الفترة، كان التركيز دائمًا على الدين والعقيدة، مع تجنّب الحديث في السياسة أو الاحتلال وما شابه. الهدف كان واضحًا جدًا: تأسيس جيل مؤمن يرتكز على قاعدة صلبة من العقيدة والإيمان.

(2) تنظيف الجبهة الداخلية

أدرك القادة أنّ الاحتلال يعتمد على شبكة واسعة من العملاء والجواسيس الذين يهدفون، ليس فقط إلى تسليم المقاومين، بل أيضًا إلى تدمير البنية الدينية والثقافية للمجتمع. انتشرت هذه الظاهرة إلى حدِّ أنّ العديد من هؤلاء العملاء بدأوا يعملون بشكل علني، يجوبون شوارع المدن والمخيّمات حاملين مسدساتهم الإسرائيلية، يعربدون ويفسدون في الأرض دون رادع. من هنا بدأ العمل على وضع حجر الأساس لهذا العمود، حيث انطلقت مرحلة تنظيف الساحة الداخلية من هؤلاء العملاء ومروّجي الفساد، من خلال حملات منظّمة وفعّالة.

في هذه الفترة، تشكّلت النواة الأولى لجهاز حماس الأمني (مجد) المكلّف بجمع المعلومات الاستخبارية عن العملاء ومن ينظّمونهم. كان هذا الجهاز يعمل على تحضير ملفات دقيقة، مناقشة كلّ حالة بشكل تفصيلي، واتخاذ الإجراءات المناسبة بناءً على المعطيات المتوفّرة. هذه الجهود الدقيقة والمنظّمة ساهمت في تحجيم دور العملاء بشكل كبير، وخلق بيئة أكثر أمانًا ووعيًا في غزّة.

تحوّلت ورش الحدادة في غزّة إلى مصانع صغيرة تعمل على تفكيك وإعادة تصنيع الأسلحة وتحسينها

أثمرت هذه الجهود التي بُذلت خلال تلك المراحل الأولى في تحصين المجتمع الفلسطيني في غزّة، وأتت أُكُلها في مراحل لاحقة عندما تفوّقت أجهزة حماس الأمنية والاستخباراتية على أجهزة المخابرات الإسرائيلية المدعومة من أقوى أجهزة المخابرات العالمية، التي فشلت على مدار سنوات في اختراق منظومة حماس الأمنية أو الحصول على أيّة معلومات عن الأسرى الإسرائيليين منذ السابع من أكتوبر وقبله.

(3) المقاومة

أيقن القادة أنّ ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد إلا بالقوّة، وأنّ الحديد لا يُفلّ إلا بالحديد، وأنّ المقاومة بكافة أشكالها، وعلى رأسها المقاومة المسلّحة، هي السبيل الوحيد للنصر والتحرير. لذا، بدأ الإعداد لبناء بنية تحتية مقاومة تعتمد على القدرات الذاتية والتصنيع المحلّي. فتحوّلت ورش الحدادة في غزّة إلى مصانع صغيرة تعمل على تفكيك وإعادة تصنيع الأسلحة وتحسينها. هذا النهج جعل المقاومة في غزّة تعتمد على ذاتها بدلًا من الاعتماد على مصادر خارجية.

لذلك ليس غريبًا أن نعلم أنّ أوّل صاروخ حصلت عليه المقاومة في غزّة لم تطلقه على العدو بل وجد طريقه إلى إحدى ورش الحدادة هذه، إذ فُكّك وأُعيد تركيبه ومن ثم أُعيد إنتاجه. وكذلك كان الأمر بالنسبة لأوّل طائرة مسيّرة تصل إلى غزّة وهكذا.

معادلة الصمود والنصر

لقد رحل معظم القادة الذين رفعوا هذه الأعمدة الصلبة شامخة في سماء غزّة، رحلوا وهم مقبلون غير مدبرين، فكانوا قدوةً، أفعالها تسبق أقوالها. دفعوا أغلى ما يملكون من أرواحهم لتحقيق معادلة أصبحت أطرافها واضحة وضوح الشمس: عقيدة وإيمان مع جبهة داخلية نظيفة وصلبة ومقاومة مسلحة، لنكون أمام صمود أسطوري ونصر مقبل لا محالة.

اغتيل القادة، لكن أفكارهم عصيّة على الاغتيال، والأعمدة التي شيّدوها بجهدٍ ودماء لن تهدمها آلة القتل الهمجية مهما اشتدّت أو عظمت.

هذه المعادلة تساعدنا أيضًا على فهم الواقع المأساوي الذي آلت إليه القضية الفلسطينية تحت قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفشلها الذريع في اتخاذ أيّة قرارات أو خطوات ردًا على الجرائم الإسرائيلية الفظيعة في غزّة. وهكذا افتقرت إلى الثوابت التي تشكّل أركان هذه المعادلة، وتحوّلت من حركة تحرّر إلى سلطة محلية لا تتعدى كونها أداة بيد الاحتلال.

إنّ أيّ إنجازات حقّقتها منظمة التحرير في الماضي كانت ممكنة فقط عندما كانت بعض هذه الأعمدة، مثل المقاومة، حاضرة. أما اليوم، ومع غيابها الكامل، فإنّ الفشل يبدو مرشحًا للتفاقم، والمستقبل يزداد قتامة.