أزمتي مع كليوبترا

26 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 18:04 (توقيت القدس)
+ الخط -

ورثت شغف القراءة عن والدي رحمه الله. وأذكر جيّداً، أنّه لكي يحفّزني على القراءة، ذكر لي قصّته مع كتاب "كليوباترا". فما قصّة هذا الكتاب؟ وما علاقته بشغف القراءة؟

بُعيد وصول عائلة والدي من فلسطين إثر النكبة عام 1948، إلى بيروت، اضطرت العائلة أن يعمل أبناؤها، الفتيات والفتيان. وكان من نصيب والدي أن يمتهن النجارة، ويبدو أنّها توجيهات جدي، الذي كان وأشقاؤه من أشهر النجارين في عكا، ولاحقاً حيفا.

التحق والدي بالمدرسة في بيروت، لكنّه ترك الدراسة في وقت مبكِّر، وعمل فتى في ورش النجارة، ليُعيل العائلة. حلَّ العيد ولم يكن في جيب والدي المال الكافي ليخرج مع أصدقائه، وهذا طبيعي لأنه يعيل العائلة، فاقتنى بما يملك من مال قليل، كتاباً ضخماً يحكي قصّة "كليوبترا". فهل اشترى والدي الكتاب لأنه رخيصٌ فحسب، أم ليستوعب الأيّام الثلاثة من العيد، أم أغرته كليوبترا الجميلة؟ وهل كانت صورتها على غلاف الكتاب؟ ربما أحجم والدي عن ذكر هذا السبب، لأنني سأخبر والدتي؟ سيبقى السبب لغزاً، ويا ليتني سألت.

حبس والدي نفسه ثلاثة أيّام متواصلة، مع "كليوباترا"، يقرأ الكتاب ليل نهار، حتى انتهت أيّام العيد الثلاثة. أما عن الحجّة التي أخبرها لأصدقائه عن سبب غيابه في العيد، فستبقى سرّاً مخبوءاً لأنني لم أسأل أيضاً.

أخبرني والدي هذه القصّة، وكنت فتى في ذلك الوقت. تساءلت في نفسي: ما هو المحفّز في هذه القصّة؛ أن يحبس فتى نفسه في أيام العيد في المنزل مع كتاب، فيما أصدقاؤه، يمرحون ويسرحون! كيف استطاع أن يجد في الكتاب السلوى، بعيداً عن أصدقائه؟ لماذا لم يحزن وتُصبْهُ كآبة ما؟

كان والدي عاملاً في النهار، ومثقّفاً في الليل

ربما حزنوا (والدي وأقاربه) بما فيه الكفاية بعد ضياع عكا، والمنزل، وورشة جدي للنجارة، فما عاد للأحزان الأخرى مكان. بل هي أيضاً الظروف القاهرة التي تفرض نفسها على كلّ البشر، لكنني عرفت ما يقصد والدي بعد سنوات طويلة، عن قيمة الكتب.

استمر والدي باقتناء الكتب، وهو يمتهن النجارة، وطرق أبواباً كثيرة من أبواب الثقافة، من الأدب النثري، إلى الشعر، وقرأ كتب التاريخ، والسياسة. وكانت مجالسه مزيجاً من هؤلاء جميعاً، فهو عامل في النهار، ومثقّف في الليل. وأذكر في إحدى المرّات أنّ طالبة جامعية في القرية التي كنّا نسكن فيها، استعارت من مكتبة والدي كتاب "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران.

 تعلَّق بمجلة "المختار"، صغيرة الحجم، ومجلة "العربي" الكويتية، التي لم يخلُ منزلنا من أعدادها الكثيرة، وكان يقرأ في الليل، على ضوء المصباح الغازي، عندما كنا نسكن في مدينة بعلبك، في ثمانينيات القرن الماضي، بسبب الانقطاع شبه الدائم للكهرباء، وكما كان يقتني الكتب، كانت الكتب تجده في الطرقات، وهي متناثرة بعد أن رماها أصحابها، فيعود بتلك الكنوز إلى البيت.

تنقلنا بين منازل عدّة، ودائماً كانت مكتبة والدي تُرافقنا أينما حللنا. وانتقلت تلك العادة إلى مكتبتي الصغيرة، التي كوَّنها والدي لي عبر شرائه الكتب، باللغة العربية والإنكليزية. وبعد مرور سنوات طويلة من القراءة، غادرها، لكنه كان يكتب أبياتاً من الشعر بين الفينة والأخرى.

لكن يبدو أنّ كليوبترا، لم تكتف من والدي، بل انتقلت عدوى القراءة إليّ بالوراثة، وتحولت لاحقاً إلى شغف وسلوى، خصوصاً بعد أن هاجر الكثير من أصدقائي اللاجئين الفلسطينيين إلى خارج لبنان، وتعزّزت أكثر بعد عملي في الإعلام والصحافة.

أين تكمن أزمتي مع كليوبترا؟

 أورثني والدي حبّ القراءة، لكنه لم يورثني منزلاً، وأصبح تنقلي بين بيوت الإيجار كلّ سنوات عدّة، هماً مؤرِّقاً لنقل مكتبتي، فما عدت أهتم لنقل الأثاث كما أهتم بنقل المكتبة. وكان من المفترض، بي وبأمثالي، أن نلجأ إلى القراءة عبر الألواح الإلكترونية، أو عبر تطبيقات القراءة، إلّا أنّ هذا لم يحصل، فما زلت كعهد والدي مع الكتاب الورقي، ويبدو أنّ كليوبترا تأبى ذلك.

لو قرّر والدي أن يفعل شيئاً غير الانفراد بكليوبترا، ألم أكن مرتاحاً الآن من الكتب وهموم نقلها؟

تنقلت في منازل عدّة، وكانت المكتبة رفيقة الدرب. وعندما تزوجت وانتقلت إلى مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، كان لديّ هم كبير، يتمثّل بكيفيّة نقل مكتبتي من منزل أهلي إلى المخيّم، حيث لا يمكن لشاحنة أن تدخل أزقته. وما زاد الطين بلّة، أنّ أونروا كانت تحفر الطرق بجانب المنزل، لتغيير البنية التحتية. وبالتالي، كان مرور شخص على رجليه فيه صعوبة، فكيف بنقل مكتبة؟ لكن ما باليد حيلة، اضطررت للتخلّص من بعض الكتب الموسوعية التي يمكن الاستعاضة عنها بالمواقع الإلكترونية، ونقلنا المكتبة بأعجوبة.

بعد سنوات لاحقة، ازداد حجم المكتبة، وما زالت المشكلة كما هي؛ كلّ سنوات عدّة أغادر منزلاً إلى آخر، وتلحقني مكتبتي. وحتى عندما غادرت منزلي مؤقّتاً في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد العدوان على لبنان، إلى منطقة أخرى، كنا نجهّز أمتعتنا للمغادرة، رافقتني مجموعة لا بأس بها من الكتب، لكن المكتبة الأساسية بقيت في المنزل، ولم أعد أفكر طوال الحرب إلّا بها، واضطررت للنزول إلى الضاحية من جديد أثناء الحرب للحصول على المزيد من الكتب.

 أستعدّ هذه الأيام لمغادرة المنزل، فما عادت الإيجارات في بيروت تتناسب ودخلي المالي، بسبب ارتفاعها بعد الحرب، وعاد الهمُّ من جديد لتوضيب الكتب، فضلاً عن تذمّر عائلتي وشكواهم من تلك "البلية". عندما سُئل الكاتب الكبير عباس محمود العقّاد، لماذا لم تغادر منزلك، كان يقول: كيف سأنقل المكتبة، الآن أستطيع أن أصل إلى أي كتاب أقرؤه، وكيف سأنقل منزلي؟ من سيرتب المكتبة غيري؟

يا ترى، لو قرّر والدي أن يفعل شيئاً غير الانفراد بكليوبترا، ألم أكن مرتاحاً الآن؟