أزمة التمويل الدولي بين الواقع المعقد والطروحات الشعبوية
في خضم النقاشات المُتصاعدة حول أزمة التمويل الدولي لجهود التنمية والإغاثة، طفت مؤخرًا على السطح العديد من المقترحات التي تدّعي تقديم حلول سريعة وفعّالة. ومع أنّ بعض هذه الطروحات يحمل قدرًا من المعقولية، تظلّ الغالبية العظمى منها عاجزة عن إدراك التعقيدات الهيكلية والجيوسياسية التي تحكم هذه الأزمة، بل إنّ العديد من هذه المقترحات يقع في فخ الخطاب الشعبوي أو العاطفي، مُقدِّمًا حلولًا تحت عناوين جذابة ومُدغدغة للعواطف، ولكنها تفتقر إلى العمق والواقعية اللازمين لمعالجة مشكلة بهذا الحجم والتشابك.
قبل الخوض في صلب الموضوع، أودّ الإشارة إلى أمرين أساسيين. أولاً النقاش حول ما إذا كان التمويل الدولي منظومة "شريرة" أو "خيّرة" هو نقاش أيديولوجي وسياسي طويل ومتشعب يمكننا مناقشته في مساحة أخرى. وثانيًا، لا خلاف على أنّ الاعتماد على الذات الوطنية هو الحل والغاية النهائية الذي يجب أن تسعى إليها الدول النامية. ومع ذلك، ليس تحقيق هذا الهدف عملية يمكن إنجازها بين ليلة وضحاها. فهو يتطلّب إرادة سياسية حقيقية، وتخطيطًا استراتيجيًّا، وتوفير الموارد اللازمة، وعملًا دؤوبًا يمتدّ لسنوات، إن لم يكن لعقود. ومن ثم، فإنّ الدعوات التي تروّج فكرة الاستغناء الفوري عن التمويل الأجنبي، الذي يُقدَّر بحوالي 300-400 مليار دولار سنويًّا حول العالم، هي دعوات غير واقعية، وتجاهل ساذج لتعقيدات الواقع الاقتصادي والسياسي.
الحلول المجتزأة مهما بدت براقة و"فهلوية" غالبًا ما تكون اعتباطية، وقد تأتي بنتائج سلبية
فكيف لدول تعاني أزماتٍ سياسيةً واقتصادية مُزمنة، ونسب دين عام تتجاوز في بعضها 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وكلفة خدمة دين تشكّل جزءًا كبيرًا من موازناتها السنوية التي نخرها العجز أصلًا، أن تطلق مبادرات على شاكلة "وكالة تنمية خاصة بها"؟ هذه الدعوات الشعبوية تتجاهل حقيقة أنّ العديد من هذه الاقتصادات المُتلقية للتمويل الأجنبي تعاني اختلالاتٍ اقتصادية هيكلية عميقة، وأن أيّ محاولةٍ لتعويض هذا التمويل ببديل محلي تتطلّب، كشرط مُسبق، إصلاحات جذرية لا يمكن تحقيقها بمجرّد قرارات سريعة أو شعاراتٍ برّاقة.
ما لا يدركه الكثيرون أو لربما يتجاهلونه فحسب، أنّ التمويل الدولي للتنمية والإغاثة ليس مجرّد تدفق مالي يمكن تعويضه أو إعادة توجيهه بسهولة، بل هو منظومة معقّدة ومُتشابكة، تطوّرت عبر عقود من العمل المؤسّسي والعلاقات الجيوسياسية، ضمن عملية أعادت هندسة المشهد برمته بشكل يتطلّب الكثير للعودة إلى عصر ما قبل خطة مارشال. هذه المنظومة لا تقتصر على الجانب المالي فحسب، بل تشمل شبكات من المصالح المتداخلة، والأجندات السياسية والاقتصادية والحقوقية، وحتى السياسات الاستعمارية المُعاصرة التي تحكم تدفقات التمويل ومصارفه وتصميم برامجه، ومن ثم شكّلت جزءًا ليس بالهيّن من قطاعاته. ومن هنا، تتطلّب أيّ محاولة لإعادة هيكلة هذه المنظومة أو استبدالها فهمًا عميقًا لتداعياتها قصيرة وطويلة المدى، وهو ما تغفله العديد من هذه المقترحات السطحية.
تمويل التنمية لا يُدار بمعزل عن البيئة الدولية وتداخلاتها
كما أنه على مدار العقود الماضية، تطوّرت منظومة التمويل الدولي إلى مجالاتٍ تخصّصيّة دقيقة، فشئنا أم أبينا أصبحت كثير من قطاعات التنمية من التعليم والصحة إلى العدالة الاجتماعية وبناء المؤسّسات تعتمد على آليات تمويلية معقدة ولو بشكل جزئي في بعضها. فلا يمكن الافتراض مثلًا أنّ التحوّل نحو قطاعاتٍ إنتاجية مثل الزراعة أو الصناعة يمكن أن يعوّض النقص في التمويل الموجّه نحو قضايا مثل العدالة والحوكمة وحقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون. فبعض هذه القضايا يصعب تسليعها أو تحويلها إلى أنشطة اقتصادية ذاتية التمويل، ممّا يجعلها تعتمد كثيراً على التمويل الخارجي، أو التبرعات والدعم المحلي الذي لم ينضج مجتمعيًّا بعد في الدول النامية لسدّ الحاجة في غير المجالات الخيرية. بالتأكيد، تطوير مصادر دخل بديلة، مثل المشاريع الإنتاجية أو زيادة التبرعات المحلية، أو الوقف التنموي قد يكون حلًّا ناجحًا في بعض السياقات، لكنه لا يمكن أن يكون حلًّا شاملًا فوريًّا يغطي جميع الجوانب التي كانت تعتمد سابقًا على التمويل الدولي بكبسة زر.
وعليه، فإنّ الرهان على الحلول السريعة أو المقاربات المبسّطة يستمر في تجاهل حقيقة أنّ تمويل التنمية لا يُدار بمعزل عن البيئة الدولية وتداخلاتها. فشبكات النفوذ والعلاقات الجيوسياسية تلعب دورًا محوريًّا، ليس في تحديد مسارات التمويل وتوزيعه فقط، بل في تصميم وتخطيط نمو المجالات المُموّلة ذاتها، بما يعكس هذا التداخل الذي أصبح جينيًّا في بعض مفاصل الدول النامية التي أدمن بعضها المساعدات، وهذا يحتاج إلى فكفكة المنظومة تدريجيًّا لتجنّب أيّة أعراض انسحابية مدمّرة، وإصلاحها وإعادة إنتاج منظومة تمويل مستقلة ومستدامة جديدة، وهذا لا يمكن أن ينتج عن حل واحد سحري، فالحلول المُجتزأة مهما بدت براقة و"فهلوية" غالبًا ما تكون اعتباطية، وقد تأتي بنتائج سلبية.
في النهاية، إنّ أيّ محاولة جادة لمعالجة أزمة التمويل الدولي يجب أن تبدأ بالاعتراف بتعقيداتها وتشابكاتها، وأن تبتعد عن الحلول الشعبوية التي لا تأخذ في الاعتبار التوازنات الدولية والمتطلبات العملاتية المعقدة والموارد المتاحة. فقط من خلال رؤية متكاملة وواقعية يمكن للعالم أن يتقدّم نحو حلول مستدامة لأزمة تمويل التنمية والإغاثة، وإعادة إصلاح هذه المنظومة، والتحوّل نحو الاعتماد على الذات تدريجيًّا، من دون الوقوع في فخ الخطابات السطحية التي لا ترى سوى جزء بسيط من الصورة الكبيرة.