"أرجوحة" الماغوط… صرخة شعرية في وجه واقع لا يتغيّر
في "الأرجوحة"، لا يكتب الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط روايةً بالمعنى التقليدي، بل يسكب مرارة العمر في صفحاتٍ تُشبه نحيبَ شاعرٍ منفرد على أطلال وطنه. إنها ليست سردًا بقدر ما هي حالة نفسية متشنّجة، احتجاج وجودي مكتوب بلغة مغمّسة بالحزن والتهكّم، كأنها نداء استغاثة من رجل لا يريد أن ينجو، بل يريد أن يُسمَع.
ليست الرواية هنا شكلاً أدبيًا يحترم القواعد أو يتّبع الحبكات، بل ثورة لغوية تُراوغ التصنيف. هي نصٌّ هارب من أسر النوع الأدبي، تتأرجح بين الشعر والنثر، بين الحقيقة والهلوسة، بين الجنون والعقل الفائض عن الحد. كأن الماغوط كتبها لا ليحكي، بل ليصرخ، ليضرب القارئ على وجهه بجملة، ويتركه يتخبّط في صدى المعنى.
يقول الماغوط: "في كل مرة أريد أن أضحك، أمدّ يدي إلى فمي، فأجده مكمّماً." بهذه العبارة المكثّفة، يكشف عن جوهر الإنسان العربي المعاصر؛ كائن محاصر لا يملك حتى رفاهية الضحك. الضحك في عالم الماغوط ليس تعبيراً عن الفرح، بل جريمة يُعاقب عليها، نوع من الخيانة للنظام الذي يفرض على مواطنيه أن يبتسموا فقط في الصور الرسمية، وأن يبكوا في صمت خلف الأبواب الموصدة.
الأرجوحة لا تحكي قصة بطل، بل تنسج خريطة لأوجاع أمّة. هي ليست رواية شخص، بل رواية زمن بأكمله. زمن مشلول، معطوب، يراوح في مكانه كأرجوحة تتحرّك من دون أن تتقدّم. شخصيات الماغوط (إن صحّ وصفها بالشخصيات) ليست سوى ظلالًا لأنماط بشرية مسحوقة، فقدت هُوياتها في زحام القمع والخوف. لا أسماء واضحة، لا ملامح بارزة، لأن الجميع في هذا العالم مجرّد رقم في سجل أمني، أو صورة في ملف تحقيق.
نصٌّ هارب من أسر النوع الأدبي، تتأرجح لغته بين الشعر والنثر، بين الحقيقة والهلوسة، بين الجنون والعقل الفائض عن الحد
بجرأةٍ تتجاوز أدب السجون إلى أدب الوجود ذاته، تُدين الأرجوحة القبح المتفشي، واغتيال الكرامة باسم النظام، والتواطؤ الجمعي مع الانهيار الأخلاقي. وكأنها تقول: "لا أحد بريء في هذا الخراب. الصمت تواطؤ، والتصفيق مشاركة في الجريمة."
الكاتب لا يطرح حلولًا، ولا يقدّم عزاءً، بل يفضح الواقع كما هو، بمرآة لا تشوّه ولا تجمّل، مرآة صريحة حدّ الألم.
في مقطع آخر، يقول: "أريد أن أصرخ... ولكن عليّ أن أملأ طلباً خاصاً بذلك، وأنتظر الموافقة، وإذا وافقوا، قد لا أكون موجوداً." هذه ليست مبالغة شاعرية، بل تصوير دقيق لعبث البيروقراطية العربية التي تُحيل حتى الاحتجاج إلى معاملة رسمية، تطلب توقيعاً وتصريحاً وتوثيقاً، حتى تُصبح غير مجدية أصلاً. هكذا تصبح الصرخة مؤجلة، كما كلّ شيء في هذا الواقع: الحرية مؤجلة، الكرامة مؤجلة، والحياة نفسها مؤجلة إلى إشعارٍ آخر.
وما يزيد الطين بلة أنّ الماغوط لا يتحدّث عن بلد بعينه، بل عن "الوطن العربي" كمفهوم مصاب بالتكرار المأساوي. الأنظمة تتغيّر، الشعارات تتبدّل، لكن السجون تظلّ قائمة، والقيود تتبدّل فقط في مادتها لا في معناها، حيث يقول: "كلما سقط نظام في الشرق الأوسط، ركضت إلى النافذة، لا لأحتفل، بل لأتأكد أنني ما زلت سجيناً."
الأنظمة تتغيّر، الشعارات تتبدّل، لكن السجون تظلّ قائمة، والقيود تتبدّل فقط في مادتها لا في معناها
هنا تكمن عبثية التغيير، حين لا يُحدث سقوط الأنظمة تحوّلاً حقيقياً، بل يكتفي بإعادة توزيع الخوف على وجوهٍ جديدة.
"الأرجوحة" ليست عملاً أدبياً يُقرأ وينتهي، بل تجربة وجودية تعبر بك إلى مناطق معتمة في الذاكرة العربية، حيث تتراكم الخيبات والنكبات من دون أي تطهير. إنها نصٌّ يتسكّع على حواف الوعي العربي، يوقظ الأسئلة التي نحاول دفنها يومياً تحت رماد الاعتياد: لماذا ما زلنا نعيش كما لو أننا في طوارئ دائمة؟ لماذا نربّي أبناءنا على الصمت؟ لماذا لا نستطيع تمييز السجن من المدرسة، أو المقبرة من دار العبادة؟
وربما هذا ما يجعل "الأرجوحة" رواية صالحة لكلّ زمان. لم تتكئ على حدث سياسي معيّن أو ظرف تاريخي محدّد، بل على الجرح المفتوح، الجرح الذي لم نفلح يومًا في مداواته، بل تعايشنا معه حتى نسيناه. جرح الأمة التي خُدعت بالشعارات، وأُسرت بالخوف، واعتادت الانكسار.
محمد الماغوط، الشاعر الذي جاء من خلفية التمرّد على كلّ شيء، يُسلّط في هذه الرواية الضوء على الفجوة بين الإنسان والحرية، ويجعل من لغته أداة مقاومة، ومن كلّ جملة بندقية لا تطلق رصاصًا، بل أسئلة. لغته ليست ترفًا أدبيًا، بل وسيلة للبقاء، للبصق في وجه واقع يريد تحويل البشر إلى أدوات طيّعة.
في النهاية، الأرجوحة ليست رواية تُقرأ للمتعة، ولا تصلح لأن تُختصر أو تُروى. إنها رواية تُعاش. جحيم صغير مكتوب بالحبر، يعيد تذكير القارئ بأنّ الصمت جريمة، وأنّ اللغة قد تكون الملاذ الأخير حين تُصادر الأصوات.
ربما كانت هذه الرواية بمثابة "وصية" كتبها الماغوط في زمن لم يتغيّر، ولن يتغيّر بسهولة. وصية تقول لنا: لا تصدقوا التغيير إذا لم يبدأ من الداخل، ولا تركنوا للراحة في عالم يتغذى على الخوف. وصية تهمس في أذن كل من يقرأها: "لا تسكت... لأن الصمت هو بداية الموت."