أبو سليمان وقمة (العلاك)

أبو سليمان وقمة (العلاك)

07 يوليو 2022
+ الخط -

سألني أبو صالح، في اتصاله اليوم، إن كنتُ أعرف المدعو "أبو سليمان"، من بلدتي معرة مصرين.

قلت له: مؤكد أنك تمزح. ففي البلدة أشخاص كثيرون يحملون هذا الاسم. أيهم تقصد؟

قال: أقصد أبو سليمان الذي كان يرد على أي كلام يقال له بكلمة: علاك.

قلت: أووه. طبعاً أعرفه. إنه من أعز أصدقائي.

ورحت أحكي له حكايته، فقلت:

- أبو سليمان، يا أبو صالح، رجل طيب للغاية، ذو صوت جهوري، لو كان قريباً من الإذاعة لاحتل مكاناً مميزاً بين المذيعين.

قال أبو صالح: اسمح لي أن أقول لك إن عمل المذيع لا يناسبه. أخشى أن يكون منسجماً، في إحدى المرات، بقراءة نشرة الأخبار، وفجأة يقول: علاك. علي الجيرة؛ لو فعلها لوضعه الديكتاتور حافظ الأسد في الطابق العاشر تحت الأرض!

عندما عرف أنه هذا الطفل الصغير مصطفى داهمه الضحك، وطلب منه أن يعود إلى صفه بسرعة. وبعد خروجه انفلتا كلاهما بالضحك

قلت: تعليقك قوي جداً يا أبو صالح. المهم؛ بقي أبو سليمان معنا على مقاعد الدراسة حتى الصف التاسع.. وكان كسولاً جداً، لا يطيق حفظ الأشعار، ولا حل مسائل الجبر والهندسة، وحينما كان يقرأ في درس التعبير عبارةً من قبيل: لقد اكتستِ الطبيعةُ الغَنَّاءُ بساطاً سندسياً، وأخذت العصافير تزقزق، وتتنقل من فنن إلى فنن، كان يلتفت إلى زميله في المقعد ويهمس له: علاك. اسمه الأصلي مصطفى واسم والده سليمان، وقد درج عليه لقب أبو سليمان منذ كان في الصف الأول.. ومن الأمور الطريفة التي جرت معه، أن معلمنا، الشيخ عبد الله، دخل إلى الصف الأول، ذات صباح، وكنا في فصل الشتاء، فشاهد مكان دوسات أرجل طينية، تسببت باتساخ أرضية الصف، فسألنا:

- مَن يا ابني دخل إلى الصف دون أن ينظف حذاءه من الوحل؟

لم يرد عليه أحد. وعندما ألح، رد عليه زميلنا عمران قائلاً إن من فعل ذلك هو أبو سليمان. دهش الشيخ عبد الله وقال: يا سلام. هل أنا في الصف الأول بالمدرسة الريفية، أم جالس في مقهى خالد صطوف القهواتي؟ مين أبو سليمان؟

أشار عمران إلى مصطفى، فتقدم منه عبد الله واضعاً يده على صدره كما لو أنه يرحب بشخص وجيه، وقال له: (ممكن تشرّف معي يا أبو سليمان؟).. وسحبه من يده إلى مكتب المدير، وقال له:

- لماذا وضعتَ الأخ أبو سليمان في الصف الأول؟ الأصول تقضي بأن تستضيفه عندك، وتسقيه كأساً من الشاي الخمير.

المدير، بدوره اندهش، وقال: مين أبو سليمان؟ 

وعندما عرف أنه هذا الطفل الصغير مصطفى داهمه الضحك، وطلب منه أن يعود إلى صفه بسرعة. وبعد خروجه انفلتا كلاهما بالضحك، وقال عبد الله:

- غداً، عندما يخطب لابنه سليمان ويزوجه، لا بد أن يعزمنا أنا وأنت على العرس!

قال أبو صالح: الحديث معك، يا أبو المراديس، ممتع، صدقني أنا لا أعرف أي شيء عن أبو سليمان غير أنه يستخدم كلمة "علاك" في حديثه اليومي.

- معك حق. ولكن الشخصية الطريفة لا تأتي من فراغ. بل إن لها خلفيات، وتاريخاً. المهم أن أهل "أبو سليمان" كانوا يريدون له أن يتعلم، وينافسنا نحن زملاءه المثابرين، والمتفوقين، وهو، إكراماً لأهله، كان يفتح الكتاب، ويمرر عينيه على الأسطر، ولا يلبث أن يقول لنفسه: علاك. ويغلقه ويباشر الجري. كانت هوايته المفضلة الجري لمسافات طويلة. وهذه الهواية جعلته يحتل موقعاً ممتازاً ضمن فريق "بيدر الرام للساطبول"..

- ساطبول؟

- نعم. كان لدينا في معرة مصرين فريقان لكرة القدم، ولكن مصطلح كرة القدم لم يكن متداولاً. الكل يسمونها (الساطبول)..

- عجيبة. من أين جاءت هذه التسمية؟

- الكلمة هي تحوير عن تحوير. بالإنكليزية، كما تعلم، (فوت بول)، كرة القدم، في التحوير الأول صار اسمها فاطبول، وفي الثاني ساطبول! أهل بلدنا يتعاملون مع الكلمات غير الدارجة بطريقة النظر إلى فم المتحدث، وتقليده، يعني واحد يقول: تعالوا نلعب بالفاطبول، فيرد عليه: نلعب بالساطبول، أيش ورانا؟ وينتقل المصطلح من واحد إلى واحد حتى يستقر على صيغة نهائية. مثلاً؛ كانت أم الفتى الذي يهوى اللعب بالساطبول، تضع ثيابه المتسخة في الطشت، وترش عليه مسحوق الهودرو، وتبدأ بغسيلها، وأثناء ذلك تبربر وتتذمر، فإذا دخلتْ عليها جارتُها وسألتها:

- أيش قصتك يا أم فلان؟

تقول لها: الله وكيلك يا أم فلان إبني هلكني بلعب الساطبول، العين تراه وهو مجروح ومرضوض متل جحش المطاربة، والدم سايل من منخاره وركبتيه، وثيابه مأنشحة (متسخة جداً)..

- سرد ممتع. دخلك؛ هل كان أبو سليمان يستعمل كلمة (علاك) ومنذ تلك الأيام؟     

- طبعاً. وأبو سليمان، لعلمك، كان يلعب في الدفاع والهجوم. وبالمناسبة، لم يكن لدينا في فريق بيدر الرام خط وسط، فالجولار (حارس المرمى) كان يرسل الكرة من المرمى إلى منطقة جزاء الخصم، وبدلاً من خطة أربعة اثنان أربعة، أو أربعة تلاتة تلاتة، كنا نلعب بخطة ستة ستة! وأحياناً كان أبو سليمان، من فرط نشاطه، يساعد الجولار بالتقاط الكرة بيده، ثم يناولها له سراً، ويهمس له: نام عليها. فإذا احتج فريق "طلوع عبد الهادي" علينا، وباشر اللاعبون بحلف الأيمان بالطلاق بالثلاثة أن أبو سليمان هو الذي كمش الكرة وليس الجولار، سرعان ما يستسلم أبو سليمان، ويوافق على تسجيل الهدف علينا، شريطة ألا يتم إنذاره بسبب الهانس (لمسة اليد)، فإذا عاتبناه على تهوره يقول لنا: علاك. وكثيراً ما كان أبو سليمان يفوّل.

- شلون يعني يفول؟

- هذا فعل عربي مشتق من كلمة (فاول)، وكان اللاعبون يستخدمونها بكثرة، واحد يقول للثاني فولت، فيحلف الثاني أنه ما فول.. ومع أننا كنا نعين حكماً لكل مباراة إلا أنه كثيراً ما يحكم دون صافرة، لسبب بسيط، أن سوق البلدة لم يكن توجد فيه صافرات، فكان الحكم يدحش أصابع يديه في فمه ويصفر، ولكن لا يرد عليه أحد، لأن الصراخ والصفير في الملعب أعلى من صفرته. وأحياناً يتشاجر الحكم مع اللاعب المفوّل، ونتدخل نحن اللاعبين للفض بينهما.

- يا سلام. على فكرة، أنا وأبناء جيلي عندما هوينا كرة القدم كانت الأمور أفضل من هذا بكثير.

- لا شك في ذلك. ولكنها، كما أعتقد، أقل طرافة.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...