عساه يصبح "يوتوبيراً"!

 عساه يصبح "يوتوبيراً"!

26 أكتوبر 2020
+ الخط -

"إذهب يا ولدي والعب، إذا ما تحققت بالقلم فلتأت بالقدم" هذه واحدة من العبارات التي تداولها المغاربة قديماً، وهي خطاب/ نصيحة مفترضة من أم لولدها تشجعه فيها على تجريب حظه في لعبة كرة القدم لعل وعسى يكون الابن موهوباً فيتفوق فيها ويصبح لاعباً محترفاً، فينقد بذلك أسرته من براثين الفقر ويتنعم الجميع بملايين الكرة.

وكما هو واضح من منطوق النصيحة، فالأم -أي نعم- تعطي الأولوية للقلم أي التعليم، غير أنها ليست واثقة من فرص نجاح الابن في الاختيار الأول. وقد تناقلت الفئات الاجتماعية الهشة هذا الكلام في زمن صعب قلت فيه فرص العمل وشحت. زمن عجزت فيه الكثير من الأسر عن توفير نفقات التعليم لأبنائها، وعد المسار التعليمي مشواراً طويلاً ومكلفاً، كما رآه آخرون استثماراً غير مضمون النتائج، إذ كان منتهى النجاح أن يلتحق الأبناء بأسلاك الوظيفة العمومية  مقابل أجور هزيلة -يومها-لا تكاد تسمن أو تغني من جوع.

ولأن دوام الحال من المحال وأمر الناس والمجتمعات دول، تغيرت الأحوال مع مرور الزمان لتستفيد الطبقات الدنيا من تطورات اقتصادية أتاحتها المتغيرات الدولية وما رافقها من حمى الإنتاج والاستهلاك.

القائمون على تلك البرامج لم يكونوا ليمنحوا شيئاً من دون مقابل، بل اعتمدوا صيغة تعاقدية تقوم على أن تعرض محتويات إشهارية على القنوات والحسابات الخاصة مقابل الربح

ولا ينبغي أن يفهم الحديث عن تحسن الأوضاع الاقتصادية في مجتمعاتنا بالقضاء على الفقر نهائياً أو تنعم الناس في بحبوحة من العيش، وإنما نقصد بذلك تحقيق الكثير من الأسر لمطلبي الكفاف والعفاف في المأكل والملبس، مع مواصلة سعيها في سد ثغرتي التطبيب والسكن. لكن، ومع فتوحات الشبكة العنكبوتية وذكاء الهواتف وباقي الأجهزة، سيجد أرباب الأسر المساكين أنفسهم أمام لوائح جديدة من المتطلبات عليهم تحقيقها للأبناء والبنات الساهرين خلف الشاشات. وهي متطلبات أصبحت تحمل طابع الضرورة والاستعجال في ظل زيادة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية واتساع الهوة بين فئات المجتمع وأبنائه.

وأمام عجز الآباء عن توفير كل ما يطلبه الأبناء، سيتولى هؤلاء الأمر بأنفسهم، سالكين في ذلك سبلاً غير تقليدية، لم يكونوا فيها بحاجة لا للقلم ولا للقدم، بل نجدها تتحقق بمجرد النقر واللمس على أسطح الشاشات.

وهكذا انبرى فلذات الأكباد ينشئون الحسابات والقنوات على التطبيقات والبرامج المختلفة، ومن تم يعرضون فيها محتوياتهم وتفاصيل حلهم وترحالهم؛ طامعين في الحصول على بعض المال.

لكن القائمين على تلك البرامج لم يكونوا ليمنحوا شيئاً من دون مقابل، بل اعتمدوا صيغة تعاقدية تقوم على أن تعرض محتويات إشهارية على القنوات والحسابات الخاصة مقابل الربح.

وما هي إلا أن يسمع الناس -وخصوصاً الشباب- بإمكانية تحقيق الاغتناء من الإنترنت ليتحول الأمر إلى حديث الساعة لديهم، خصوصاً بعد أن تولت بعض المواقع الكشف عن قيمة أرباح مشاهير الحسابات أو تقديرها. ولأن مصدر المال هو الشركات المستشهرة على القناة، ارتبط الحصول عليه بارتفاع عدد مشاهدي المحتوى المقدم كما بعدد المشتركين والمتفاعلين مع الصفحة أو القناة.

وكلما زاد عدد المشاهدين زادت حظوظ الربح ومعها الشهرة والذيوع والانتشار، ليصبح المعني بالأمر نجماً افتراضياً يُعرف بـ"صانع محتوى" أو "مؤثر" يستضيفه الإعلام  ويتحدث عنه الناس. هذا غير رضا الوالدين إذ يكفيهم مصاريف تعليمه كما القلق على مستقبله في زمن عزت فيه فرص النجاح.

وبغض النظر عن "الأضرار الجانبية" لهذه الأعمال والأنشطة الجديدة، فإنني أتصور الوالدين وهم يدعون لأبنائهم بالتوفيق في ما استجد من أنواع النجاح تلك: واجعله يا رب "يوتوبيراً" ناجحاً، يرفل في عز الغنى والشهرة، متنعماً بإعجاب الناس ومشاهداتهم و مشاركاتهم، واجعل قناته سيدة القنوات، يزيد عدد زوارها يوماً عن يوم ليصل الملايين إن شاء الله. آمين!

دلالات