اليوم العالمي للمياه

اليوم العالمي للمياه

01 ديسمبر 2016
+ الخط -

في ذات يوم، وكنت قد أصبحتُ كاتباً معروفاً.. دعاني صديق لي، فنان تشكيلي، إلى افتتاح معرضه في حلب. وكان في المعرض، كما تناهى إلى مسمعي، صبايا جميلات، وسيدة صحافية (مُطَلَّقَة) تحبُّ كتاباتي، وتتصل بي كلما قرأت لي قصة أو مقالة، وتعبر لي عن إعجابها بشخصيتي الأدبية.

وقد شاءت المصادفات أن تكون هذه الصحافية مدعوة إلى المعرض بقصد أن تُعدَّ ريبورتاجاً صحافياً عنه. وقالت لي، عبر الهاتف، إنها ستكون فرصة نادرة لنتعرف بعضُنا على الآخر عن قرب... وأثناء ذلك تسألني رأيي بالمعرض، لتضمه إلى الريبورتاج.

قبل أن أغادر مدينتي إدلب تذكرت أغنية كنا نغنيها ونحن أطفال في صبيحة العيد، فنقول: اليوم عيدي... ولبست جديدي!

وقررت أن (ألبس جديدي)، فاليوم، بالنسبة إلي، أكثر من عيد.. لذلك فقد تصرفت مثل النسوان حينما يكنَّ مدعوات إلى سهرة عائلية عامرة بالسيدات الجميلات، المتأنقات، المُنَافِسَات في مجال استعراض الأزياء.

وقفت أمام الدرفة الخاصة بثيابي في الخزانة، وشرعت أجرِّبُ هذا القميص على ذلك البنطال، ثم أبدِّل بالجورب جورباً من لون أقرب إلى لون البنطال، ثم أبدل القميص، فالبنطال، وألائم ما أرتديته مع الحذاء (الصَبَّاط) الوحيد الذي كنت أمتلكه في تلك الأيام،.. دواليك حتى ظهرتُ، أمام نفسي في المرآة، ليس وسيماً، ولكن أقل (تحنيشاً وهردسة) مما أنا عليه في الواقع.

في المعرض.. وخلال وقوفي في جانب من صالة العرض، حدث استقطاب من قبلي لبعض الأصدقاء الذين أعرفُهم من قبلُ والتقيتُهم هنا بمحض المصادفة. وكان منهم من أتى بصحبة زوجته، أو صديقته، وأصبحتُ أنا محور اهتمام الواقفين حولي، إلى درجة أن أحد أصدقائي روى لصديقته التي ترافقه طرفة كنت أنا بطلها، حينما كنت أزورهم في حلب قبل ربع قرن، ونجلس في مقهى القصر، وأثناء الضحك الصافي الذي فَجَّرَتْه الطرفة، دفعني هو بيده التي كانت ترتجُّ من شدة الضحك، فانسفح كأسُ العصير البرتقالي اللون الذي كنت أحمله في يدي على الطرف الأيمن من قميصي!

أسرع الحاضرون إلى (إسعافي) مما حصل، فناولتني إحدى السيدات بضعة مناديل ورقية، وقامت سيدة أخرى بسفح كأس من الماء على القميص، وفركته بيدها، وهي توضح لي أن هذا العصير فيه أصباغ، إذا لم تُمَدَّدْ بالماء فربما تبقِّع، ويمتد تبقيعها إلى ثيابي الداخلية!

انتهى الأمر على خير، وتبرعت إحدى الصبايا الموجودات فناولتني كأساً من العصير (الدايت) الخالي من السكر والأصباغ، عوضاً عن الكأس الذي انسفح، وتابعنا الحديث الذي كنا بصدده،.. وإذا بالجمع ينشق، وتظهر السيدة الصحافية التي كانت، في الحقيقة، أقل جمالاً من الصورة التي رسمتُها لها في خيالي بكثير.. وقد سلمت علي بطريقة احتفالية وهي تقول:

- مو معقول.. أستاذ خطيب شخصياً؟

وكأنها أرادت أن تستسمح الموجودين عن فعل تريد أن تُقدم عليه، فقالت:

- أنا في العادة لا أسلم مباوسة على أحد، ولكن لا تواخذوني... هذا الأستاذ خطيب، بودي أبوسه...

وتعاطتْ على رؤوس أصابع قدميها لكي تصل إليَّ (وأنا في الأساس متوسط الطول) وقبلتني على الخدين، فانسفح كأس العصير الثاني على الطرف الأيسر من قميصي، ونزلت منه بضع قطرات على الجانب الأيسر من بنطالي.

أعاد الحاضرون تنفيذ (الإسعافات الأولية) التي أجروها لقميصي قبل قليل، وفركت الصحافية الجزءَ الذي ابتل من بنطالي بمنديل بللته بالماء، وكان ذلك في منطقة حرجة مما جعل وجهي يحمرُّ خجلاً، وعلقت السيدة التي أسعفتني أول مرة قائلة إن العصير (الدايت) - من حسن الحظ - لا يبقِّع على الثياب!

أخيراً استتب الأمن في المكان، وتابعنا مناقشاتنا حول اللوحات البارزة في المعرض، وحول تجربة صديقي الفنان بشكل خاص،.. والفن التشكيلي السوري بشكل عام.

في حوالي الحادية عشرة ليلاً، انتهى الزمن المخصص للعرض، وأقبل علينا صديقي الفنان، ودعا مجموعة من الحاضرين إلى أحد الفنادق من فئة خمسة النجوم لتناول العشاء.. حاول بعضهم الاعتذار، فقال لهم بحماس:

- الاعتذار يعني أنكم ستفوِّتون على أنفسكم جلسة رائقة... إن مجالسة صديقي خطيب، في الحقيقة، فرصة لا تعوض. ثم لا تنسوا أننا سنسهر في الطابق التاسع، وثمة مطرب، وغناء ورقص ومرح.

المهم، وافق البعض على الحضور، وانسحب البعض الآخر..

حينما دخلنا مبنى الفندق الذي سنتناول فيه العشاء، شعرت أن مثانتي قد امتلأت، بل طفحت، بسبب البرد الموجود خارج الفندق، والسوائل التي شربناها في صالة العرض (عدا ما انسفح منها على قميصي من الجانبين فدخل إلى جسمي عبر مسامات الجلد!)، فاستأذنت من الداخلين، وتوجهت إلى الحَمَّامات الموجودة في الطابق الأرضي.. وأنا في مسيس الحاجة لإفراغها.

ومن فرط اضطرابي، واستعجالي لإفراغ مثانتي، فقد دخلت، بالخطأ، إلى حَمَّام السيدات!.. ولم أكن قد وصلت إلى نصف عملية إفراغ مثانتي حتى سمعت سيدتين تتحدثان بلغة لم أفهمها، أغلب الظن أنها الروسية، وأنا كنت مسترسلاً في التبول فلم أتوقف، إلى أن فتحتْ إحدى السيدات، وبدا لي أنها من مناطقنا، فمها، فجأة، وبدأت تردح على الرجال الذين لا يستحون ولا يخجلون، قليلي الذوق والحياء والوجدان والنخوة والناموس الذين يدخلون إلى الأماكن المُحرجة من دون إحم أو دستور.. وكانت تقصدني أنا بالطبع.

ووقتها قطعتُ الحالة، وخرجت راكضاً باتجاه حَمَّام الرجال، منكساً رأسي إلى الأسفل، لأن المرأة لم تتوقف عن الردح لي حتى أثناء خروجي.. وقد سمعت، بعدما أصبحتُ في حَمَّام الرجال، صوتَها وهي توبخ الامرأتين الأجنبيتين توبيخاً شديداً، وتتهمهما بقلة الشرف لأنهما سكتتا عن دخولي إلى مكان له حُرْمَتُه هو الحَمَّام! ولعله من حسن حظهما أنهما لا تفهمان العربية.

كنت أظن أن هذه المشكلة، أعني دخولي الحمام بالغلط وتوبيخ المرأة لي وللأجنبيتين، هي الذروة بالنسبة لسلسلة المشاكل التي تعرضتُ لها في هذا اليوم، ولكن، وبينما أنا أمد يديَّ تحت الصنبور لأغسلهما، إذ وقع بصري على بنطالي، وتبين لي أنني أفرغت كمية ليست بالقليلة من البول على الجانب الأيمن منه، فظهرت البقعة جلية عليه، وكأنها (المُريب) الذي يكاد أن يقول: خذوني!.

ولأنني إنسان ذكي! كما تعلمون! ونبيه! وألمعي! فإنه لم يمر من الوقت سوى ثانيتين، أو أقل، حتى اهتديت إلى الحل المناسب لهذه المعضلة، وهو أن أبلل الواجهة الأمامية من بنطالي كلها بالماء! وبذلك يضيع أثر البول الذي بلل الجانب الأيمن منه.

وقد فعلت.

وحينما أصبحت مع مجموعة الرجال والبنات والسيدات الذين كانوا ينتظرونني حول طاولة العشاء، في الطابق التاسع، فوجئوا بي مغطوطاً بالماء مثل القط الواقع في السطل!

ههنا وجدتُ مخي بحاجة إلى مزيد من الفوسفور الخاص بالذكاء لكي أشرح موقفي للأشخاص الموعودين بسهرة عالمية معي، فقلت لهم:

- غريبة!.. فندق خمس نجوم.. والحنفية في الحَمَّامات من دون جلدة!!.. تصوروا، بمجرد ما فتحتُ الحنفية لأغسل يديَّ نشبَ الماء علي!..

وكنت على وشك أن أكمل الشرح، ولكنني سمعت إحدى السيدات تهمس لصديقي الفنان، وعلى ما بدا لي أن بينهما شيئاً من الخصوصية:

- صاحبك عاملها على حاله! إنه، بالفعل، مثلما قلت لي عنه، ظريف كتير!

وانفلتا بالضحك!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مجموعة عصفورية 2010

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...