BDS... لا صدى في الداخل

BDS... لا صدى في الداخل

24 فبراير 2018
السلطة تعيق مقاطعة إسرائيل اقتصادياً (عصام الريماوي/الأناضول)
+ الخط -
تبدو الأرضية الخصبة التي وجدتها حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، والتي تعَرّف فلسطينياً وعالمياً بـ"BDS"، في دول العالم لتحقيق أهدافها، قاحلة في بلدها الأم فلسطين.
وانطلقت فكرة المقاطعة قبل ثلاثة عشر عاما بالأساس على مقاطعة إسرائيل سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا، وصولا إلى تحقيق عزلتها عالميا وفضح جرائمها، كونها انتهكت حقوق الفلسطينيين في الحرية والمساواة، وممارستها سياسة التطهير العرقي بحقهم من خلال طردهم من أراضيهم، وصعدت من وتيرة الاستيطان.
الخطوات والحراك الذي تقوم به الحركة أثبتا نجاعتهما على المستوى الدولي واستطاعا تحقيق عشرات النجاحات، خصوصا بين أوساط المجتمع الأوروبي، الأمر الذي كبد إسرائيل خسائر ليست على المستوى المادي وحسب وإنما في إظهار صورتها الحقيقية، ما جعل حركة المقاطعة في دائرة الاتهام والاستهداف من قبل قادة الاحتلال، الذين يطلقون التهديدات بين الفينة والأخرى ضد أعضاء الحملة، وكل من يناصرها ويؤيدها، إلى جانب سن قوانين وتشريعات ضدها.
وما يميز حركة المقاطعة أنها أنشئت بأيد فلسطينية من مؤسسات مجتمع مدني ونقابات واتحادات، غير حكومية، حيث يرى البعض أنها تشبه في نظام عملها حركة مقاومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا "الأبرتهايد" إلى حد كبير.
بيد أن ما حققته الحركة عالميا، لا يجد طريقه محلياً، فمن يدخل المحال التجارية الفلسطينية الكبيرة منها والصغيرة، يجد أن البضائع الإسرائيلية وحتى بضائع المستوطنات تغزو رفوفها، ما جعل حملات مقاطعة الاحتلال "موسمية"، تنشط في أوقات الأزمات والحروب، كان أوجها عام 2014 إبان العدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة، حينها أفرغت المحال التجارية من البضائع الإسرائيلية، ووضع ناشطون في الحملة ملصقات ملأت الشوارع تدعو للمقاطعة، لكنها سرعان ما تلاشت.
ويعزو مراقبون أن لذلك أسباباً كثيرة، أهمها عدم وجود إرادة سياسية لدى السلطة الفلسطينية الغارقة في مستنقع العلاقات والاتفاقيات مع إسرائيل، خاصة اتفاقية باريس الاقتصادية التي هي جزء لا يتجزأ من اتفاقية أوسلو الموقعة عام 1994، التي تبقي الاقتصاد الفلسطيني هزيلا ومنهكا.
وتشير الإحصائيات الفلسطينية الرسمية إلى أن حجم التبادل التجاري بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لم يتأثر بحملات المقاطعة أو بالقرارات السياسية التي اتخذها المجلس المركزي
الفلسطيني مؤخرا بوضع آليات للانفكاك الاقتصادي مع الاحتلال، إذ أظهر تقرير جهاز الإحصاء المركزي حول التجارة الخارجية للسلع لشهر تشرين الثاني/نوفمبر ارتفاع الصادرات الفلسطينية خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بنسبة 7.5% مقارنة مع الشهر الذي سبقه، كما ارتفعت بنسبة 3.7% مقارنة مع شهر نوفمبر من عام 2016.
كما شهدت الصادرات إلى إسرائيل خلال شهر نوفمبر ارتفاعاً طفيفاً بنسبة 0.5% بالمقارنة مع الشهر السابق، كما ارتفعت إلى باقي دول العالم بنسبة 60.4%، حيث شكلت الصادرات إلى إسرائيل 82.6% من إجمالي قيمة الصادرات لشهر نوفمبر 2017.
ولا تقتصر العلاقات الاقتصادية بين السلطة وإسرائيل على حجم الصادرات والواردات، بل تشمل كذلك المشاريع الثنائية الآخذة بالاتساع والتي كان آخرها افتتاح وزيرة الاقتصاد الفلسطينية عبير عودة مع وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون "الماسح الضوئي" الهادف إلى توسيع حجم الصادرات والواردات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والأردن، وغيرها الكثير، وهذا يقودنا فعلا إلى السؤال عن مدى نجاح الحملة في تحقيق أهدافها في الضفة الغربية المحتلة؟
يجيب المنسق العام للجنة الوطنية لحملة المقاطعة محمود نواجعة إن الحملة متصلة مع بعضها بعضاً في الداخل والخارج، وتعمل بشكل متكامل، حيث يأتي العمل على المستوى المحلي، ويشمل مناهضة التطبيع كأولوية للحركة، ذلك لأنه يخرب جهودنا بشكل عام من خلال استخدامه من قبل حكومة الاحتلال لإعاقة عملنا الذي بالأساس يهدف لحصارها بشكل كامل، وعزلها عن العالم.
ويؤكد أن الحملة في فلسطين مستمرة، ولا يمكن تقييمها من خلال المنتجات على رفوف المتاجر، ذلك لأن الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد مسلوب لصالح الاحتلال في ظل غياب سياسات حكومية تمنع ذلك، واعتماد السلطة على المقاصة كأحد أهم موارد الدخل، لكنه يشدد على أن ثقافة المقاطعة تنمو في عقول الأجيال الأصغر عمراً، ومستوى التأثير لديهم كبير على البيئة المحيطة بهم، وجاء هذا بعد عمل الحركة على منهجة عمل المقاطعة، ونقله من ردات الفعل إلى الفعل، ضمن برامج طويلة الأمد.
لا ينكر نواجعة أن الحركة تشتد في الأزمات أكثر من غيرها وهذا بالنسبة للحركة مهم، لأنه يظهر مدى قناعة الناس بتكتيكات الحركة، لكن ذلك لا يعني غيابها في غياب الأزمات، بل يستمر نشاطها بشكل كبير في كل الأوقات، لوجود عدد من الحملات الفاعلة، والبرامج والأنشطة المستمرة، والتي تهدف بالأساس إلى تعميق ثقافة المقاطعة.
لكن منسق الحملة الشعبية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية خالد منصور، له رأي مخالف إذ يقول "المقاطعة لم تتقدم إلى الأمام على الصعيد المادي، كون هذه المنتجات تدخل بسهولة إلى سوقنا لعدم وجود قرار لدى السلطة الفلسطينية بمقاطعتها، والطامة الكبرى أن هناك أسواقا مازالت تبيع بضائع المستوطنات أيضا".
ويرى أيضا أن أصحاب المصالح من المتنفذين في السلطة الفلسطينية، ووكلاء لشركات إسرائيلية يحاربون المقاطعة لحماية مصالحهم، ناهيك عن أن بعض الأطراف من هؤلاء الوكلاء مدعومون من أشخاص من ذوي النفوذ، وبالتالي هذه تجارة تدر عليهم أرباحا طائلة فلماذا يحاربونها؟
ويلقي منصور أيضا باللوم على القوى الوطنية والإسلامية، قائلا إنها هي الأخرى ليس لديها جدية حقيقية لمقاطعة الاحتلال، هؤلاء فقط يتغنون بإنجازات الحركة على الصعيد العالمي، لكنهم لا يريدون تطبيق ذلك داخليا، "هؤلاء يعملون بشكل موسمي واستعراضي وليس جزءا من برنامجها بحيث يصبح نمط حياة لدى المواطنين.
ويضيف أن المقاطعة بذلت جهودا شاركت فيها أطراف ومع ذلك لم تتقدم حيث لا يجد فيها بعضهم سلاحا مهما، يمكن أن يؤثر في إسرائيل.
ليس هذا وحسب، بل إن الحملة بحسب منصور لم تلقَ أذانا صاغية من قبل كبار التجار، الذين لم يقدموا سلعة رخيصة وذات جودة منافسة تمكّن المواطن من الاستغناء عن المنتج الإسرائيلي، حيث يقوم هؤلاء برفع سعر المنتج وتقليل جودته، وبالتالي هم يحققون أرباحا مادية طائلة، ولعل خير دليل يتمثل في شركتي الاتصالات الخلوية الفلسطينية التي تبيع المنتج بأسعار مرتفعة، هذا جميعه أضعف حركة المقاطعة، بل أفشلها.
ويعتبر أن الخلل أيضا يكمن في القوانين الفلسطينية البالية، التي لا تحرّم المنتجات الإسرائيلية، لوجود المعاهدات والاتفاقيات، خاصة باريس الاقتصادية، متسائلا: "لماذا تستمر السلطة الفلسطينية بالتمسك باتفاق أوسلو واتفاقية باريس طالما دعا المجلس المركزي في معظم جلساته مرارا وتكرار إلى إعادة النظر في تلك الاتفاقيات؟".
ويعزو سبب تعاطي بعض دول العالم وتبنيها فكرة المقاطعة إلى كونهم يعرفون أن إسرائيل خرقت القرارات والقوانين الدولية، وتنتهك باستمرار حقوق الإنسان من خلال ما ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين، لذا ومن منطلق إنساني هم يقتنعون بضرورة مقاطعتها وعزلها.
ويتابع أن الحملة الشعبية -وهي تتفرع عن حركة المقاطعة BDS - عملت خلال العام المنصرم على استهداف طلبة المدارس والجامعات بورشات عمل ومحاضرات لحثهم على تبني فكرة الحركة كونهم الأقدر على التأثير في مجتمعهم.
رغم أن الصورة تبدو بالنسبة لبعضهم قاتمة في هذه المسألة، إلا أن هناك أصواتا ترتفع بشكل دائم لتقول "لا" مصدرها نشطاء وأناس تبنوا فكرة حركة المقاطعة، هؤلاء لم يقفوا في وجه من يبيع ويروج للمنتج الإسرائيلي فقط، بل أيضا ضد أصوات "النخب" السياسية والثقافية التي تتعالى بين الحين والآخر مدافعة عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل تحت مبررات ومسوغات غير مقنعة.
هؤلاء النشطاء هم من ضغطوا على المؤسسات الرسمية وطالبوها بإلغاء عرض فيلم "قضية 23" للمخرج اللبناني زياد الدويري، وكان مزمعا عقده في اختتام مهرجان أيام سينمائية في فلسطين الذي أقيم في رام الله العام الماضي، انطلاقا من أن مخرج الفيلم مارس تطبيعا علنيا مع الاحتلال من خلال استعانته بكادر إسرائيلي خلال تصويره فيلمه بعنوان "الصدمة" عام 2012، ومكوثه في تل أبيب مدة شهر كامل، ليجد الدويري "خدمة القضية الفلسطينية" شماعة يعلق عليها تبريراته في التطبيع.
هؤلاء الشبان هم من تصدوا أيضا "بالبيض والأحذية" عند معبر بيت حانون في قطاع غزة للوفد التطبيعي البحريني الذي زار إسرائيل ومنعوهم من دخول قطاع غزة، ومنعوا عرض الفيلم الأميركي المرأة الخارقة "Wonder Woman"، الذي تقوم ببطولته الممثلة الإسرائيلية غال غادوت التي خدمت في الجيش الإسرائيلي.
ولا ينفك الناشط الشبابي ومصمم الغرافيك حافظ عمر، وهو واحد ممن تبنوا فكرة المقاطعة، عن المشاركة في فعالياتها وأنشطتها وتصدى كأقرانه، ومن خلال البوسترات وورشات العمل، أو المسيرات والمظاهرات المناهضة للتطبيع.
يرى عمر أن "BDS" تستمد شرعيتها من الشعب الفلسطيني فهي أوسع ائتلاف يضم أطيافه كلها، حتى بتنا نجد العديد من مناصري القضية الفلسطينية حول العالم ينضمون إليها، ويضغطون على حكوماتهم وأنظمتهم باتجاه مقاطعة إسرائيل، ويستطيع أي مؤيد لفكرتها الانضمام لها دون الحاجة لعضوية وإجراءات معينة.
ويشير إلى أن الحركة وضعت معاييرها بالتنسيق والتعاون مع الأجسام التي تشكلها، وبدأت عملها بقوة داخل الضفة الغربية، غير أنه ومع مرور الوقت لا نلمس مقاطعة حقيقة تحقق نتائج مشابهة لتلك التي يتم تحقيقها على المستوى الخارجي، بسبب ما وصفه الصعوبة والتعقيدات وتبعية الاقتصاد الفلسطيني للإسرائيلي، ما يكبده خسائر كبيرة في ظل سيطرة إسرائيل على كل المنافذ والمعابر والموارد الفلسطينية. ويستطرد: "حتى مع مقاطعة إسرائيل فإن رأس المال عمليا يذهب".
لكنه يجد أيضا أن المقاطعة حققت نجاحا على الصعيد الثقافي، واستطاعت التصدي للمطبّعين والأصوات المنادية بالتطبيع مع إسرائيل، والمنتفعة من العلاقة معها، صحيح أن من بينهم هؤلاء "نخب" ثقافية ممن لهم بصمة واضحة في هذا المجال، غير أنهم لا يشكلون رأياً عاماً فلسطينياً، ولا يستطيعون إحداث ضرر بمنجزات المقاطعة.
وفي ذلك يشير الشاعر الفلسطيني فارس سباعنة إلى أن هناك من يرى في المقاطعة سلاحاً يؤثر في إسرائيل، ويستثمر أي فعل في سبيل تعزيز هذا الأمر، بينما يجد آخرون أن هناك ضرورة لحصر الحالات التي يجب أن يكون فيها مقاطعة، دون أن يمس ذلك بحرية الرأي والتعبير.
ويعتبر أن من الإيجابية فتح حوار مع حركة المقاطعة يحدد فيه معايير التطبيع بشكل أوضح، خاصة أن هذا المصطلح واسع وفضفاض، وأن تكون طبيعة عمل الحركة مفهومة أكثر لدى عامة الناس.
وفي هذا الصدد، نجد أن المطلع على قرارات المجلس المركزي الفلسطيني التي خرج بها في ختام دورته الثامنة والعشرين التي عقدت في رام الله كانون الثاني/يناير من العام الحالي، مستمر في حثه السلطة الفلسطينية على ضرورة وقف كل أشكال التنسيق الأمني مع الاحتلال، والتحلل من العلاقات الاقتصادية التي رسختها اتفاقية باريس الاقتصادية، والاستمرار في مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية، وفضح الشركات التي تعمل بها، وكذلك التأكيد على عدم قانونيتها، وكذلك تبني حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، ودعوة دول العالم إلى فرض العقوبات عليها، رغم أن هذه القرارات هي نسخة مشابهة إلى حد كبير لتلك التي اتخذها المجلس في جلسته التي عقدت في آذار/مارس من عام 2015.
وليست قرارات المجلس المركزي وحسب من تبقى حبيسة الأدراج دون تنفيذ، بل ومثلها أيضا بعض القوانين، كتلك التي تجرم وتحظر كل من يتاجر بمنتجات المستوطنات أو يبيع سلعها في السوق الفلسطينية وهذا ينسحب على من يعملون بها، رغم فشل السلطة الفلسطينية في توفير بدائل لها، كما أن عدم وجود عقوبات رادعة بحق المتهاونين من التجار وغيرهم يفتح شهيتهم على جلب المزيد من تلك البضائع.