معركة الهلال النفطي في ليبيا.. صراع النفوذ ومسارات التشظي

معركة الهلال النفطي في ليبيا.. صراع النفوذ ومسارات التشظي

10 يوليو 2018

في ميناء برقة من "الهلال النفطي" الليبي (12/1/2017/فرانس برس)

+ الخط -
أصدر اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في 25 حزيران/ يونيو 2018، قرارًا يقضي بنقل تبعية المنشآت النفطية إلى المؤسسة الوطنية للنفط التابعة للحكومة الليبية المؤقتة التي تتخذ مدينة البيضاء، شرق ليبيا، مقرًا لها. وتعد المؤسسة الوطنية للنفط التابعة للحكومة المؤقتة مؤسسة موازية للمؤسسة الأصلية في طرابلس، التابعة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، وهي من المؤسسات التي ظهرت، خلال السنوات الأخيرة، جراء التشظي السياسي والمؤسساتي الذي تشهده ليبيا، مثل إنشاء مؤسسة موازية لمصرف ليبيا المركزي. وجاء قرار حفتر بعد تمكّن قواته من استعادة السيطرة على منطقة الهلال النفطي، بعد أن استحوذ جهاز حرس المنشآت النفطية، ومسلحون من قبيلة المغاربة بقيادة إبراهيم الجضران، على ميناءي السدرة وراس لانوف.

الهلال النفطي.. المشهد المتحرّك
تمتد منطقة الهلال النفطي من ميناء الزويتينة شمال شرق مدينة أجدابيا، مرورًا بالبريقة وراس لانوف، وصولًا إلى ميناء السدرة على الطريق الساحلي المؤدي إلى مدن سرت والمنطقتين الوسطى والغربية من ليبيا. وتتمثل المنشآت النفطية في منطقة الهلال النفطي، أساسًا، في الخزانات والموانئ التي تصدر عبرها شحنات النفط والغاز إلى الخارج، إضافة إلى عدد من منشآت التحويل والتكرير. وتعد حقول السرير والنافورة ومسلة والبيضاء وماجد، الواقعة على مسافة تراوح بين 300 و500 كم جنوب بنغازي، المزوّد الرئيس لمنشآت الهلال النفطي بكميات النفط الخام التي تقارب نصف إنتاج ليبيا.

ظلت منطقة الهلال النفطي، خصوصًا البريقة وراس لانوف، مسرحًا لعمليات كرٍّ وفر، على امتداد أشهر، خلال ثورة فبراير 2011، بين قوات الثوار وكتائب القذافي. وشهدت المنطقة، طوال سنة 2012 والنصف الأول من سنة 2013، استقرارًا نسبيًا سمح بعودة تصدير النفط إلى معدلاته السابقة، غير أن هذا الاستقرار لم يدم طويلًا، فقد قاد إبراهيم الجضران، المنحدر من قبيلة المغاربة، في تموز/ يوليو 2013، مسلحين من "حرس المنشآت النفطية – فرع الوسطى"، واستولى على أهم المنشآت النفطية في المنطقة، ومنع التصدير منها، أكثر من عامين، بغطاء سياسي وإعلامي من الصف الذي ساند، فيما بعد، عملية الكرامة. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2014، أطلقت قوات "فجر ليبيا"، المكونة من كتائب موالية للمؤتمر الوطني العام، عملية "الشروق" بهدف "تحرير الموانئ النفطية، وتسليمها إلى السلطات المختصة في الدولة الليبية"، غير أن العملية توقفت، فيما بعد، من دون تحقيق أهدافها المعلنة.
وفي كانون الثاني/ يناير 2016، شنّ مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هجومًا على الهلال النفطي، انطلاقًا من معقلهم السابق في سرت. واستهدف الهجوم، أساسًا، ميناءي السدرة وراس لانوف، حيث أصيبت خزاناتٌ بأضرار وقتل منتسبون في جهاز حرس المنشآت النفطية، غير أن التنظيم فشل في الحفاظ على المواقع التي سيطر عليها، واضطر إلى التراجع سريعًا. وفي أيلول/ سبتمبر 2016، أطلقت القوات التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر عملية "البرق الخاطف"، وسيطرت على جميع منشآت الهلال النفطي، من دون عملياتٍ قتاليةٍ تذكر، بعد تفاهمات مع شيوخ قبيلة "المغاربة" التي ينحدر منها آمر حرس المنشآت النفطية إبراهيم الجضران.
لم تدم سيطرة قوات حفتر على المنطقة سوى أشهر قليلة، حيث كان الهلال النفطي، في آذار/ مارس 2017، مسرحًا لهجوم شنّه مقاتلو "سرايا الدفاع عن بنغازي"، المشكّلة، في معظمها، من أبناء بنغازي الذين هجّرتهم قوات حفتر. وتمكّن مقاتلو السرايا، في هذا الهجوم، من السيطرة على النوفلية وبن جواد وميناءي السدرة وراس لانوف، في وقتٍ وجيز، معلنين أن هدفهم العودة إلى مدينتهم، داعين حكومة الوفاق الوطني إلى استلام المنشآت النفطية. وبعد أكثر من أسبوعين، من سيطرة السرايا، تمكّنت قوات حفتر، بغطاء جوي كثيف، من استرجاع ما خسرته. وبعد ما يقارب العامين من اختفاء آمر حرس المنشآت النفطية، إبراهيم الجضران، وتحديدًا في 14 حزيران/ يونيو 2018، عاود الرجل الظهور، من خلال بيانٍ بثّه على شبكات التواصل الاجتماعي، معلنًا إطلاق هجومٍ جديد لطرد قوات حفتر من الهلال النفطي.
الأدوار الإقليمية
سيطرت القوات التي يقودها الجضران على ميناءي السدرة وراس لانوف، خلال ساعات معدودة، وأسرت عشرات من قوات حفتر، ومن الأجانب الذين تم تقديمهم على أنهم من منتسبي حركة العدل والمساواة السودانية. ولقيت العملية العسكرية، أول مرة، دعم مشايخ من قبيلة المغاربة التي يقطن أغلب منتسبيها منطقة الهلال النفطي ومدينة أجدابيا وجوارها. لكن سيطرة جهاز حرس المنشآت النفطية على الميناءين لم تدم سوى أسبوع، فقد أجبره القصف الجوي العنيف للطيران الإماراتي الذي يتخذ قواعد بنينا والخادم والجفرة الجوية منطلقًا لعملياته العسكرية على الانسحاب، لتسيطر قوات حفتر على المنطقة من جديد.
لم يعد الدور الإماراتي في ليبيا خفيًا، بعد أن تحوّل من طور الدعم اللوجستي والسياسي إلى مرحلة التدخل العسكري المباشر إلى جانب القوات التابعة لحفتر. وأثبتت أغلب الوقائع
العسكرية التي شهدتها مدينة بنغازي ودرنة والجفرة والهلال النفطي أن قوات حفتر عاجزةٌ عن الحفاظ على أي مكاسب على الأرض، من دون غطاء جوي إماراتي، وهو ما ظهر، جليًا، في الهجوم الذي شنته سرايا الدفاع عن بنغازي في آذار/ مارس 2017، وفي الهجوم الذي نفذه حرس المنشآت النفطية بقيادة الجضران، كما ظهر في انقلاب الموازين لصالح قوات حفتر حال تدخل الطيران الإماراتي.
ما يقال عن التدخل الإماراتي، يقال أيضًا عن التدخل المصري الحاضر في مجريات الصراع الليبي. وتعد مصر من أكثر الأطراف الإقليمية حرصًا على بقاء المنشآت النفطية في أيدي قوات حفتر، خصوصا أن الرجل أعلن، في أكثر من مناسبة، التزامه بالحفاظ على مصالح مصر، حتى لو تعارضت مع مصالح ليبيا. وتزيد حالة الفلتان والغموض التي تلف تفاصيل تصدير شحنات النفط الليبي منذ 2013، فرص استفادة القاهرة التي تعيش أزمةً اقتصاديةً خانقة وشحًّا في الطاقة، من وقوع منطقة الهلال النفطي خارج سيطرة السلطات الليبية المعترف بها دوليًا. وعندما سيطرت قوات حفتر على موانئ الهلال النفطي، صدرت تقارير وتصريحاتٌ عن شحناتٍ مجانيةٍ من النفط تصل إلى مصر تباعًا. ويعد إقليم برقة، والهلال النفطي المتاخم له، مجالًا حيويًا تحرص السلطات المصرية على بقائه تحت سيطرة حلفائها المحليين المساندين لعملية الكرامة. وقد حرصت القاهرة على الاحتفاء بعديد من شيوخ القبائل التي تشكل النسيج الاجتماعي للهلال النفطي، وما جاوره، مثل شيوخ قبيلة "المغاربة".

شبح التقسيم
بإصدار خليفة حفتر قرار نقل تبعية منشآت الهلال النفطي من المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا إلى المؤسسة الوطنية للنفط (الموازية) التابعة للحكومة الليبية المؤقتة التي تتخذ مدينة البيضاء مقرًا لها، وتدين بالولاء لحفتر، تمّت إضافة شرخ مؤسساتي جديد إلى الشروخ التي أصابت أجساما سياسية ومؤسساتية كثيرة في ليبيا. ومنذ إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر "عملية الكرامة" في أيار/ مايو 2014، وانتقال مجلس النواب إلى طبرق (في إقليم برقة) بدأ التشظي السياسي والعسكري، وحتى الاجتماعي، يتمأسس. فقد تم تشكيل الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، في مدينة البيضاء، لتكون حكومة موازية لحكومة الإنقاذ الوطني، ثم لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، كما تم بعث مصرف ليبيا المركزي في البيضاء موازيًا للمصرف المركزي في طرابلس، ثم المؤسسة الوطنية للنفط في بنغازي.
أما بالنسبة إلى الملف الأمني والعسكري، فقد أعلن حفتر إنشاء مؤسسةٍ عسكرية تسمى "القوات المسلحة العربية الليبية"، مشكّلة من الكتائب المسلحة و"الصحوات القبلية" التي تدين بالولاء له في إقليم برقة ومنطقتي الزنتان وورشفانة في الغرب، ونصّب نفسه قائدًا عامًا لها، قبل أن يباركه رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ونوابٌ، معظمهم من مدن برقة.
يأتي قرار حفتر إلحاق تبعية منشآت الهلال النفطي بالمؤسسة الوطنية للنفط، الخاضعة لسلطته، في سياق تشظي المشهد الليبي الذي انطلق منذ أربع سنوات، لكنه يكتسب خطورته وخصوصيته من نواحٍ عدة. فالنفط يعد المورد الرئيس، ويكاد يكون الوحيد، لاقتصاد الدولة ولمعيشة الليبيين، ومن الطبيعي أن تكون محاولات الانفراد به سببًا لصراعاتٍ داخلية، وحتى إقليمية، تصبح فيها الخطوط الحمراء متجاوزةً، بما في ذلك تقسيم البلاد. وكما كان متوقعًا، سارعت الأطراف السياسية المنادية بالفيدرالية إلى مباركة الخطوة والإشادة بها. وعلى الرغم من أن الفيدرالية، في الأصل، لا تعني التقسيم، فطرحها في المشهد الليبي اليوم، المتخم بالصراع وعوامل التفكّك، سيؤدي، فعليًا، إلى التقسيم.
تمتد منطقة الهلال النفطي، غربًا، إلى ما بعد ميناء السدرة في اتجاه بن جواد والوادي الأحمر. ويمثل هذا الامتداد عامل نزاع بين المنادين بالفيدرالية والمنادين بالوحدة، منذ سنوات. فحدود إقليم برقة، بحسب التقسيم الإداري، القائم على دستور 1951، تقف عند غرب أجدابيا، ولا تضم في نطاقها من منشآت الهلال النفطي سوى البريقة، غير أن المنادين بالفيدرالية، في السنوات الأخيرة، يعتبرون الوادي الأحمر فاصلًا بين المنطقة الشرقية (إقليم برقة) والمنطقتين الوسطى والغربية (إقليم طرابلس)، ما يعني أن جميع منشآت الهلال النفطي تقع ضمن الحدود الترابية لإقليم برقة. وتسيطر القوات التابعة لحفتر، حاليًا، على كامل هذه المنطقة تقريبًا. وعلى الرغم من تهديداتها المتكرّرة بالتقدّم غربًا في اتجاه المنطقتين الوسطى والغربية، فهي لم تترجم، حتى الآن، إلى إجراءاتٍ عسكرية على الأرض.

مواقف إقليمية ودولية غير متجانسة
يصعب الحديث عن موقف إقليمي ودولي متجانس وواضح المعالم من الصراع الدائر في ليبيا، ففي حين تقف مصر، بقوة، مع حفتر وحاضنته السياسية والقبلية، تلتزم تونس قدرًا من الحياد، بينما يظل الموقف الجزائري موسومًا بالتحفظ، يرافقه عمل محدود لمنع تمدد النفوذين، المصري والإماراتي إلى المنطقة الغربية. أما مواقف القوى الدولية الغربية، على الرغم من البيانات المشتركة التي تصدرها في كل مناسبة، فتتوزّع بين الدعم الفرنسي، العسكري والسياسي، المعلن والضمني، لحفتر، والحرص الإيطالي على الحفاظ على علاقات بمختلف الأطراف، وفتور الحماس الأميركي والبريطاني للانغماس في تفاصيل المشهد الليبي.
ربما يؤدي انفراد طرف ليبي واحد بالسيطرة على هذا المورد الاقتصادي الحيوي إلى تبعاتٍ تشمل اقتصاديات الدول المستوردة والمستثمرة فيه. وعلى الرغم من ضعف حصة ليبيا ضمن دول "أوبك"، (نحو مليون برميل يوميًا) والتذبذب الذي شهدته، في السنوات الأخيرة، واستبعاد إمكانية ارتفاع أسعار النفط جرّاء قرار حفتر، خصوصا بعد الوعد السعودي للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بضخ كميات كبيرة في السوق العالمية، تتصاعد ردّات الأفعال التي قابلت القرار شيئًا فشيئًا. فقد أصدر ممثلو كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا (الداعمة عمليًا حفتر) وإيطاليا، بيانًا، حذّروا فيه من تصدير النفط الليبي بطرقٍ غير شرعية، ودعوا إلى أن "تظلّ هذه الموارد الليبية الحيوية تحت السيطرة الحصرية لشركة النفط الوطنية الشرعية"، وهو ما ورد، أيضًا، في بيان الأمين العام للأمم المتحدة الذي دعا إلى "التهدئة وإعادة جميع
الموارد الطبيعية وإنتاجها وعائداتها إلى سيطرة السلطات الليبية المعترف بها".
وفي إطار تداعيات قرار حفتر، هدّدت وزيرة الدفاع الإيطالية بشن عملية عسكرية لحماية الآبار التي تستثمرها مؤسسة إيني والعاملين فيها، غير أنها تحاشت الإشارة إلى حفتر، مؤكّدة أن العملية، في حال حدوثها، ستكون "حربًا على الإرهاب".
والحقيقة أن الدول الغربية التي ضغطت على طرابلس لقبول حكومة الوفاق، لم تفعل شيئًا ضد القوى التي تسعى إلى تقويضها، وفي مقدمتها حفتر، وبعضها يدعمه عمليًا.

خاتمــــــة

يضيف قرار حفتر إلحاق تبعية منشآت الهلال النفطي بمؤسسة النفط الخاضعة لسلطته عامل تعقيد جديدًا إلى المشهد الليبي، كما يوسّع حالة التشظّي السياسي والمؤسساتي، وترقى خطورته إلى درجة تمهيد الطريق إلى فرض التقسيم أمرًا واقعًا. وعلى الرغم من أهمية القرار، ما زال الموقفان الإقليمي والدولي موسوميْن بالغموض والتردّد وتجنب الحسم، من دون مؤشراتٍ واضحة على حدوث تحولات جذرية، في المستقبل المنظور، من شأنها كبح جماح اللواء المتقاعد، المدعوم إقليميًا، ليستحوذ على مزيدٍ من الأوراق، ويرسّخ سلطاته.