تحوّل في مقاربة العرب للتدخل الأجنبي

تحوّل في مقاربة العرب للتدخل الأجنبي

30 اغسطس 2014

آثار قصف على موقع لفجر ليبيا (27 أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


اعتاد الخطاب الرسمي العربي على إدانة التدخل الأجنبي ورفضه. وعلى الرغم من بعض التدخلات الغربية، إبان الحرب الباردة في المنطقة، بقي التدخل الأجنبي عموماً مرفوضاً بدعوى السيادة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. لكن هذا العهد ولّى. ففي ظرف زمني قياسي، تحوّل التدخل الأجنبي من منبوذ إلى مطلوب، إذ تتعالى الأصوات العربية المطالبة بالتدخل الأجنبي. وبين الحقبتين، عرفت المنطقة مرحلة "انتقالية"، تميّزت بازدواجية المواقف؛ دعم التدخل سراً ورفضه علناً. ولو وضعنا جانباً التدخل في العراق في 1991 جانباً لأنه جاء لتحرير الكويت، فإن التدخل في العراق، ثم احتلاله، في 2003 يمثّل نقطة تحوّل في مقاربة العرب للتدخل الأجنبي. فإذا كانت الدول العربية لم تدعمه ـ ما عدا دول خليجية سهّلت تنفيذه بحكم علاقتها التحالفية مع أميركا ـ فإنها لم ترفضه صراحة وبقوة، ولم تدنه بقوة، حفاظاً على شعرة معاوية مع الولايات المتحدة.

وتأكد هذا التحوّل في المقاربة العربية للتدخل (الذي لم يعد أجنبياً فقط، بل أصبح عربياً أيضاً)، مع أحداث الربيع العربي والتدهور الأمني في العراق، حيث تغيّر سلوك الدول العربية على أربعة مستويات.

يكمن التغيّر على المستوى الأول في المطالبة بالتدخل الأجنبي، ومباركته وشرعنته بشكل واضح، كما حدث مع ليبيا. حيث مررت دول عربية مشروع التدخل العسكري الغربي وعرَّبته (جعلته مطلباً عربياً أيضاً، بالإضافة إلى كونه مطلباً ليبياً وغربياً). هكذا، لم تعد السابقة العراقية استثناءً، بغضّ النظر عن اختلاف الظروف والسياقات والمسوِّغات. لكن الجنوح العربي إلى التدخل الأجنبي لم يؤتِ أُكله في سورية. فهذه الدول (العربية نفسها) حاولت تكرار المشهد نفسه في سورية، لكنها عجزت عن ذلك. لأنها تجاهلت، أو أغفلت، مسألة سياسية في غاية من الأهمية، وهي درجة التقاء المصالح بين مختلف الأطراف المعنية. فالتوافق الاستراتيجي الخليجي الغربي بشأن ليبيا لم يتوفر بخصوص سورية. يعبّر هذا، في ما يعبّر، عن قصور الرؤية الاستراتيجية لدى "الفواعل" الخليجية، الفاعلة إقليمياً.

يتمثل التغيّر، على المستوى الثاني، في ظاهرة التدخل العربي في شؤون عربية داخلية. طبعاً، ليس هذا جديداً، فسنوات الحرب الباردة العربية والصراع بين المعسكرين، المحافظ والتقدمي، عرفت تدخل العرب في شؤون بعضهم بعضاً. إلا أن الجديد، اليوم، يتمثّل في استخدام السلاح (تسليح أطراف بعينها، خصوصاً في سورية وفي ليبيا) والمال، للتدخل في صراعاتٍ أهليةٍ، بدعم أطرافٍ على حساب أطراف أخرى، أو التدخل المباشرة لتغيير موازين القوة العسكرية في البلاد (القصف الإماراتي المصري لمواقع "فجر ليبيا" الإسلامية، دعماً لقوات اللواء خليفة حفتر وحلفائها). ويعدّ المشهدان الليبي والسوري الأكثر تعبيراً عن هذه الظاهرة الجديدة، أي تدخل مباشر لدول عربية في صراعات عربيةٍ محليةٍ بطريقةٍ تجعلها طرفاً في هذه الصراعات الأهلية. طبعاً، سلوك هذه الدول العربية المتدخلة لا تحكمه الاعتبارات الأخلاقية، ولا الديمقراطية (فهي غير ديمقراطية أصلاً)، وإنما مصالح سياسية واقعية، مرتبطة برهانات محلية (تخص الأنظمة القائمة)، وإقليمية عربية بينية وعربية ـ شرق أوسطية.

ويخص المستوى الثالث، التدخل الانتقائي، فالدول العربية، التي لطالما نددت بازدواجية المعايير، أو الكيل بمكيالين بشأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تمارس، اليوم، السياسة نفسها عربياً. دول عربية نافذة شرعنت وساهمت في التدخل في ليبيا، وتتدخل في سورية بدعوى حماية الشعب، هي نفسها تقريباً التي دعمت وموّلت الانقلاب العسكري في مصر الذي صادر إرادة الشعب وقمعه. هذا هو منطق الزمن السياسي العربي الجديد. مصير الشعب الليبي أهم من مصير الشعبين المصري والبحريني، ولا حديث عن مصير الشعب الفلسطيني الذي تسعى قوى عربية (المتدخلة هنا وهناك) لجعله يقبل بالاحتلال، بدعوى أنه أهون من تبعات مقاومته. وهو أمر "ثَلِب وجائر". وكما قال طرفة بن العبد: "وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة...".

أما المستوى الرابع، وهو في غاية من الواقعية السياسية، فيتمثّل في المساومة/ المقايضة في الملفات الإقليمية المعنية بالتدخل. وتعتبر البحرين النموذج الوحيد، إلى الآن، في هذا الإطار. فالدول العربية التي شرعنت التدخل في ليبيا وموّلته، قايضت وساومت ذلك بتدخلها في البحرين. فلسان حالها كان: ليبيا لكم والبحرين لنا. هكذا حسمت دول خليجية وقوى غربية مصيري ليبيا والبحرين، لكن في اتجاهين متعاكسين تماماً. فالتدخل الغربي (المشرعن عربياً) في ليبيا كان لحماية الشعب ضد النظام، أما في البحرين فكان التدخل الخليجي (المشرعن غربياً) لحماية النظام ضد الشعب. إنها مفارقة ما بعدها مفارقة.

لم يتوقف التغيّر في مقاربة العرب التدخل عند هذه المستويات الأربعة، بل ظهر مستوى آخر من نوع جديد، والمتمثل في نوع من التعوُّد على التدخل الأجنبي آليةً لإدارة الصراعات الأهلية، ولو إلى حين. إذ أصبح التدخل مطلباً عراقياً لمواجهة داعش، ومطلباً قيد التشكُّل في ليبيا لمواجهة بعض الميليشيات. لكن التدخل المطلوب حالياً (في العراق وليبيا) هو نتاج تبعات التدخل السابق الذي كان مطلوباً من أطراف، ومداناً من أخرى. فالتدخل في العراق أوجد دولة طائفية، وفي ليبيا أوجد دولة الميليشيات. وبغض النظر عن المواقف المبدئية من التدخل (والمخاطر التي قد تنجم عن اللاتدخل في بعض الحالات)، فإن المشكلة في عجز الحكومات المعنية عن بناء مؤسسات الدولة القادرة على استعادة احتكار استخدام القوة الشرعي الذي هو مكمن محنها السياسية، وعلى بناء دولة المواطنة.

وعليه، تقتضي الحكمة مراجعة الظروف السياسية ـ الاجتماعية التي مثّلت تربة خصبة لظهور الميليشيات في ليبيا وداعش في سورية والعراق، خصوصاً أن أي تدخل جديد سيعالج النتائج، لا الأسباب. لذا، فالقضاء على داعش، اليوم، لا يعني منع ظهور دواعش أخرى في المستقبل.