متى تغادر الجيوش العربيّة العروش إلى ثكناتها؟

متى تغادر الجيوش العربيّة العروش إلى ثكناتها؟

14 يونيو 2014

عبد الناصر والقذافي.. من الجيش إلى الرئاسة (ديسمبر/1969/فرانس برس)

+ الخط -
مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي، تطلعت الجيوش إلى العروش في عالمنا العربي، بعد عقود من ارتكاز الأخيرة على تلك، وكانت البداية الأكثر وضوحاً في مصر على يد حركة الضباط الأحرار التي ضمت مجموعة من الشباب الضباط الذين التحقوا بالكلية الحربية بعد معاهدة ١٩٣٦ (أتاحت لأبناء الطبقة الوسطى من المصريين الالتحاق بالكلية)، وانتظموا في سلك الضباط "حاملي العريظة"، أي الضباط العاملين، وليس الضباط الشرفيين المتدرّجين من تحت السلاح، أي من بين الجنود وضباط الصف، مثل ما كان حال أحمد عرابي وصحبه، وكان يقود حركة الضباط الأحرار البكباشي أركان حرب، جمال عبد الناصر، ومعه مجموعة من أقرانه، ومن صغار الضباط الذين ينتمون إلى أسر مصرية من صغار الموظفين ومتوسطيهم، وأيضاً صغار ملاّك الأراضي ومتوسطيهم. انقلبوا في البداية على قيادة الجيش الموالية للعرش، ونجحوا في ذلك يوم ٢٣ يوليو/ تموز ١٩٥٢، ثم اتجهوا مباشرة إلى الجالس على العرش، آخر ملوك أسرة محمد على المتوجين، بعد يومين، ليجبروه على التنازل عن العرش لولي عهده الرضيع، ويغادر البلاد. ثم، وقبل مرور عام على بداية الحركة المباركة للضباط الأحرار، في ١٨ يونيو/ حزيران ١٩٥٣، أصدر مجلس قيادة الحركة إعلاناً دستورياً يلغي الملكية ويعلن الجمهورية، واختار اللواء أركان حرب، محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية، بصفته كان معيناً من مجلس قيادة تنظيم "الضباط الأحرار" قائداً لثورة الجيش. ولا بد من التوقف أمام مصطلح "ثورة الجيش"، وهو مستخدم في وثيقة الإعلان الدستوري بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، والموقّع من قائد ثورة الجيش وكل أعضاء مجلس القيادة. إذن، الهدف كان واضحاً من البداية، وهو العرش.
وإذا كانت ثورة الجيش في مصر قد اكتفت بطرد الملك وأسرة محمد علي، ومصادرة ممتلكاتهم، فإن ثورة الجيش في الدولة العربية الكبيرة الثانية، العراق، انطلقت في ١٤ يوليو/ تموز من العام ١٩٥٨، بواسطة تنظيم "الضباط الوطنيين"، وكان يقوده العقيد الركن، عبد السلام عارف، ومعه العميد الركن، عبد الكريم قاسم، لم تكتف بالعرش، وكانت أكثر دموية، فقد قتلت الجالس على العرش وأسرته، في باحة القصر الملكي، وهو يعلن استسلامه. ثم جاءت ثورة جيش عربي آخر على عرش قديم آخر، عندما انقلب العقيد اليمني، عبد الله السلال، على الإمام البدر، آخر ملوك آل حميد الدين في اليمن في العام ١٩٦٢، وكان الهدف أيضاً هو العرش. ثم جاءت ثورة جيش آخر على ملك آخر في العام 1969 في ليبيا، كان قائدها ضابط صغير لم تتعد رتبته الملازم أول، هو معمر القذافي، والذي قاد انقلاباً على الملك إدريس السنوسي، وكان الهدف أيضاً هو العرش. وإلى جوار تلك العروش الأربعة التي استولت عليها الجيوش، هناك دولٌ أخرى أحكمت الجيوش قبضتها عليها في سياقات أخرى، أبرزها الجزائر وسورية والسودان.

أحكمت هذه الجيوش قبضتها على العروش، فماذا فعلت بالأوطان منذ تركت ثكناتها؟ باستعراض سريع للمشهد على امتداد إطار زمني تجاوز ستين عاماً، وإطار جغرافي شمل معظم تلك الدول، وإطار سياسي واقتصادي وثقافي وحضاري لشعوب تلك الأوطان، يكفي أن نتناول فقط الوقائع الملموسة بشكل مادي، لا مجال لإنكاره. في مصر، تعرّض الوطن لأكبر هزيمتين في تاريخه، على يد عدو تم ترويج أنه مجرد عدو مزعوم، إسرائيل، التي احتلت في عام 1956 شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية، وفي عهدتها بعد هزيمة "جيش الثورة"، وعلى الرغم من ذلك، بادر إلى دعم جيش ثورة العراق في عام 1958، ثم بادر إلى دعم ومساندة، بل والحرب إلى جانب جيش ثورة اليمن في 1962.  ثم جاءت الهزيمة الكبرى على يد العدو المزعوم نفسه، إسرائيل، في يونيو/ حزيران 1967، وفي تلك المرة، كانت الهزيمة شاملة، وامتدت لتشمل شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة بالنسبة لمصر، وكامل الأراضي الفلسطينية والقدس الشريف، وهضبة الجولان السورية. وعلى الرغم من أن كل الجيوش الثائرة، شاركت في تلك الحرب، بشكل أو آخر، فإن العدو الإسرائيلي المزعوم انسحب من سيناء على قاعدة اتفاقيات كامب ديڤيد ومعاهدة سلام محكمة مع مصر، تضمنت اعترافاً كاملاً وملاحق أمنية ونظام تنسيق وتعاون مستمر. والأهم في ما يتعلق بالجيش الذي قام بالثورة، أنه أصبح يعتمد على معونةٍ عسكريةٍ أميركية، تتضمن عتاده الرئيسي وسلاحه وتدريبه.

هذا على الجانب العسكري الاحترافي. أما على الجانب المتعلق بنظام الحكم والدولة، فقد تم تغيير اسم الدولة من مملكة إلى جمهورية، واستبدال الشعار من التاج إلى النسر، ومصطلح كرسي الحكم بدلاً من العرش، والسيد الرئيس، أو فخامة الرئيس، بدلاً من جلالة الملك، وتم وضع نظام وراثة مبتكر، حيث يختار الرئيس وريثه في كرسي الحكم. وإذا انتقلنا إلى المشهد في باقي الدول التي استولت فيها الجيوش على العروش، العراق واليمن وليبيا، أو التي تتولى فيها الجيوش سدة الحكم، مثل الجزائر وسورية والسودان، فلن نجد فروقاً كثيرة، نُظُم حكم شكلها مدني وجوهرها عسكري، لديها مؤسسات تمثل سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكلها كأنها مؤسسات، غير أنها بلا سلطات فعلية، فلا هي نظم ديموقراطية، ولا دستورية، ولا حديثة، لكنها مجرد نظم افتراضية، يحكمها أباطرة!
وما كان ممكناً أن تستمر مثل تلك الأوضاع، بعدما أصبحت خارج سياق الزمن، فانطلقت شرارة ثورات الربيع العربي، لتسري سريعاً في أوصال شعوب جمهوريات العروش، اهتزت عروش الجنرالات بشدة، فسقطوا من فوقها، لكن المفارقة أنهم سقطوا كأشخاص، وبقيت العروش تبدو خالية، وبدا لبعض الثوار، ولقوى معارضة مناضلة وأخرى غير مناضلة، في مقدمتها تيار الإسلام السياسي المعتدل، خصوصاً "الإخوان المسلمين"، أن الفرصة أصبحت سانحة لهم للوصول إلى سدة الحكم. ولكن، لم تكن تلك الطموحات سوى مجرد أضغاث أحلام رومانسية، تحطمت على صخرة تحرك جاد وحاسم، خططت له الجيوش وأدارته، وهذه تعتبر نفسها صاحبة الحق الأصيل في العروش التي استولت عليها منذ عقود.
اختلفت السيناريوهات والسياقات من دولة إلى أخرى، لكن المشهد تقريبا نفسه، حالة اضطراب أمني، وتصدع اجتماعي، وتأزم اقتصادي، مصر وسورية واليمن وليبيا والعراق والسودان، كل تلك الدول تعتلي فيها الجيوش، أو العسكر، بشكل مباشر أو غير مباشر، سدة الحكم والسلطة، فماذا يجري في تلك الدول؟ العراق و"داعش" تستولي على الجزء العربي من شماله وعسكر نوري المالكى يفرون عرايا. اليمن والحراك الجنوبي والحوثيين والقاعدة. سورية والجيش الحر و"داعش" والبراميل المتفجرة. والسودان ودارفور وكردفان واعتقالات المعارضة. ليبيا والجنرال خليفة حفتر وكتائب ١٧ فبراير الثورية وفوضى السلاح والأقاليمية. مصر وهيمنة كاملة على مقدرات الدولة، وتظاهرات مستمرة وشباب غاضب رافض وجيش منتشر في سيناء وشوارع القاهرة والمدن والقرى. هذا ما جرى وما كان، منذ غادرت الجيوش ثكناتها، وتطلعت إلى العروش، فلا الجيوش تطورت وحمت الأوطان، ولا العروش بقيت رمزاً لوحدة الأوطان! فمتى تعود الجيوش إلى ثكناتها؟   


 

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.