أوباما في الرياض: الثابت والمتغير

أوباما في الرياض: الثابت والمتغير

31 يناير 2015

أوباما وزوجته لدى وصولهما إلى الرياض (27 يناير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
زيارة الأربع ساعات التي أداها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى الرياض الثلاثاء، 27 يناير/كانون الثاني الجاري، ولقاؤه العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، حملت قيمة رمزية عالية، باصطحاب أوباما 29 من كبار الشخصيات الأميركية وزوجته السيدة ميشال. ويتمثل الجانب الرمزي، هنا، بالإيحاء بثبات العلاقات التاريخية بين واشنطن والرياض، مع تعاقب الحكام في العاصمتين. والعلاقات لا شك ثابتة بين الدولة العظمى والدولة المنتجة الأكبر للنفط، وتستند إلى تراث من التفاهم "الاستراتيجي"، ممتد منذ نحو سبعين عاماً. على الرغم من محطات شاب فيها فتور وسوء تفاهم العلاقات بين البلدين، وبالذات عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي وجّـه فيها الاتهام لـ 19 سعوديا بالوقوف وراء التفجيرات أو تنفيذها، وعلى الرغم من الاختلاف على سياسة التحالف الأميركي الإسرائيلي التي أدت عملياً إلى إدامة احتلال الضفة الغربية والجولان منذ العام 1967.
وواقع الأمر أن التفاهم "العميق" بين البلدين ارتبط بالتعاون العسكري والنفطي على الدوام، فيما التقاء الرؤى السياسية شهد ذروته خلال الحرب الباردة بين المعسكرين، السوفييتي والغربي، أربعة عقود، وحتى انتهاء تلك "الحرب" مطلع تسعينيات القرن الماضي. وخلال تلك الفترة الطويلة، ساد التفاهم الأميركي السعودي في مجالات الطاقة وتطويق النفوذ السوفييتي في العالم، ونشأت الظاهرة الجهادية في أفغانستان، برعاية أميركية سعودية. ومع ذلك، بدا الأميركيون متفاجئين من استشراء هذه الظاهرة التي قرعت أبوابهم، وفجّرت البرجين في مانهاتن، وهو الحدث المزلزل الذي جرت نسبته، ضمنياً، في وسائل إعلام أميركية وفي أوساط في الكونغرس، آنذاك، إلى المملكة العربية السعودية، على الرغم من أن الرياض عانت وواجهت، بدورها، نشاط جماعات جهادية على أراضيها. لقد أمكن تطويق مضاعفات ذلك الزلزال على العلاقات الأميركية السعودية. لكن واشنطن بدت، منذ ذلك الحين، وكأنها تقوم بـ "تضحية" كبيرة في الحفاظ على مستوى علاقاتها مع الرياض، وذلك مع التحول الذي طرأ على الرأي العام الأميركي. هذا مع تجاهل واشنطن تضحية الرياض في الحفاظ على مستوى علاقاتها مع واشنطن، على الرغم من الانحياز الأميركي الأوتوماتيكي للاحتلال الإسرائيلي للقدس وبقية الأراضي العربية المحتلة، منذ العام 1967.
الآن، وبعد زوال الخطر الشيوعي الذي وحّد الجانبين عقوداً، وأرسى التقاء أيديولوجيا مكيناً بينهما، فإنه باستثناء مسألة الإرهاب، فإنه يصعب العثور على عدو مشترك يجمع الحليفين، ويوحد جهودهما في الإطارين، الإقليمي والدولي. في وقت تتخذ فيه واشنطن سياسة شديدة البراغماتية (إن لم تكن ذات منحى أناني) تختزل فيه مفهوم الإرهاب بالمساس بمواطنين أميركيين وغربيين، أو بمؤسسات ومصالح مباشرة أميركية وغربية. أما البيئة السياسية الإقليمية التي نشأ فيها الإرهاب، بنسخته الجديدة، داعش، فذلك لا يستوقف الأميركيين. ففي العراق، مثلاً، مطلوب القضاء على داعش وشن حرب عليها، ولا شيء آخر يتعين فعله في هذا البلد الذي لم يكن في أحسن أحواله قبل سيطرة داعش على الموصل. بل كان مرتعاً
للإرهاب ونمو الميليشيات الطائفية، واعتماد سياسة التهجير الطائفي والعرقي.
تلتقي واشنطن والرياض على الأهمية الحاسمة لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. ولكن، ما الذي يجمع سياسة البلدين حيال اليمن، الجارة الجنوبية للسعودية؟ لا شيء تقريبا، فالمنظور الأميركي يقتصر على محاربة القاعدة في اليمن ولا شيء آخر، على الرغم من الانعكاسات الخطيرة لتفكك الدولة اليمنية على السعودية، واغتصاب الحوثيين السلطة في هذا البلد (مسؤولون أميركيون قالوا إنه لا شيء يثبت بعد علاقة الحوثيين بإيران!).
لإيران، في المنظور الأميركي، أن تفعل كل شيء لا يهدد المصالح الأميركية والإسرائيلية، شريطة ألا تنافس إسرائيل في امتلاك أسلحة نووية، أو أن تمس مصالح أميركية في العراق أو لبنان مثلاً. أما تأثير التغلغل الإيراني على دول المنطقة، ونسيج مجتمعاتها، فهي مسألة قد تستحق اهتماما أكاديمياً بحثياً، لكن من دون أن يصل الأمر إلى انشغال سياسي فعلي.
بطبيعة الحال، هذه أحد وجوه الاختلاف بين الرياض وواشنطن، حيث تتساهل الأخيرة مع التمدد الإيراني في الإقليم، وتغض النظر عنه، شريطة الانضباط النووي من طرف طهران. والرياض، مثل بقية العواصم الخليجية، تؤيد بحزم انضباط طهران في نشاط نووي سلمي، غير قابل للتحول إلى إنتاج أسلحة دمار شامل، غير أن الطموحات الإيرانية لا تختزل في الملف النووي على أهميته الفائقة.
العاهل السعودي الملك سلمان على خبرة كبيرة بالتباينات السعودية الأميركية الموروثة، فقد كان الذراع اليمنى للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وأحد المشاركين الكبار في صناعة القرار السعودي. وبالنظر لاختلاف طبيعة النظامين السياسيين في الرياض وواشنطن، فإنه ليس مقدراً أن يتم ردم الفجوات بين الجانبين في السنة الأخيرة من ولاية أوباما الثانية، أو أن تشهد مواقف البيت الأبيض تغيراً ملموساً.
وبدلاً من مواصلة لوم الإدارات الأميركية المتعاقبة، التي تتكئ، على الدوام، إلى اتجاهات الرأي العام، ونفوذ الكونغرس لتسويغ سياساتها، فالأجدر بنا، كعرب، أن نتغيّر نحن، ولو بعض الشيء، كأن يتم تصعيد قيادات سعودية شابة في المملكة إلى الصف الثاني من المستويات العليا، وأن يتم منح صلاحيات أكبر لمجلس الشورى في البلد الخليجي الأكبر، وأن يتغير الطابع الاستهلاكي الذي يسم هذا البلد، نحو أنماط متدرجة ومتنامية من الإنتاج الصناعي في مختلف الميادين، مع استلهام كل ما يمكن استلهامه من تجارب تركيا وإيران والدول الآسيوية في مجال التصنيع، بما يقود البلاد نحو هدف الاعتماد الذاتي، وطي ملفات قديمة، مثل تمتيع غير المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية، والانتهاء إلى الأبد من ملف مثل قيادة النساء مركباتهن (وهذا منع لا تفهمه الغالبية العظمى لمسلمي المعمورة فكيف بالآخرين؟!). وذلك كله جنباً الى جنب مع تنويع مصادر التسلح وتوطيد العلاقات مع المراكز الدولية في العالم، وفي البال الزيارة التي أداها الملك سلمان بن عبد العزيز في أثناء ولايته العهد، في العام الماضي، إلى الصين، كنموذج لبناء مصالح متعاظمة مع القوى الاقتصادية والصناعية والعسكرية في عالمنا. فواقع الحال يفيد بأن رقعة المصالح والرؤى المشتركة مع الدولة العظمى باتت تضيق، بدل أن تتسع أو تبقى على حالها، فيما لم تعد واشنطن تضمن سلامة دولة في العالم سوى الدولة العبرية، والالتقاء أو التباعد الأيديولوجي لم يعد معياراً رائزاً للعلاقات، بدلالة فك الحصار عن كوبا التي ما زال يحكمها حزب شيوعي، والتقارب مع إيران "الإسلامية".