داعش تعود إلى مالكها

داعش تعود إلى مالكها

19 نوفمبر 2014

مشهد عام لكوباني/عين العرب في اشتباكات مع "داعش" (15نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

يظهر، الآن، بشكل واضح، أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، أو "دولة الخلافة"، عادت جزءاً من التكتيك الأميركي للتدخل في المنطقة، بعد أن ظهر، في السنتين الأخيرتين، أنها تخضع لسياسات النظامين في إيران وسورية، بحيث جرى توظيفها في مواجهة الثورات. هذا تحوّل "كبير"، لكنه يزيد في توضيح طبيعة هذا التنظيم الذي لعب أدواراً متعددة، منذ أنشأه أبو مصعب الزرقاوي، تحت مسمى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين سنة 2005 امتداداً لتنظيم القاعدة. وحيث لعب أدواراً مهمة في إيصال الوضع العراقي إلى ما وصل إليه من صراع طائفي، وتدمير للمقاومة التي واجهت الاحتلال الأميركي، والضغط على "السنّة" من منظور ديني متشدد، لدفعهم للتكيف مع "العملية السياسية" وقبول الاحتلال الأميركي.

إذا كانت جبهة النصرة قد تشكلت من عناصر "جهادية"، كانت معتقلة في سجون السلطة السورية، وبالتفاعل مع تنظيم دولة العراق الذي كانت قد انخرطت فيه قبل اعتقالها، فقد أصبحت داعش محور الصراع ضد الثورة السورية، بعد أن "بلعت" جبهة النصرة التي استمر جزء منها ينشط تحت المسمى نفسه. فقد كانت معظم معارك داعش مع الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة السورية، ومع الشعب الذي أرادت أن تفرض عليه نظاماً مغرقاً في الأصولية والتخلف، وحيث لاحقت الكادرات العسكرية والإعلامية والإغاثية، فاعتقلتها أو قتلتها. في وقتٍ كان يبدو واضحاً تنسيقها مع السلطة، ودعم السلطة لتقدمها، أو قصف المناطق التي تُطرد منها. وفي المواقع التي كان يبدو أن اشتباكاً فيها مع قوات السلطة، كان يظهر أن الأمر منسّق. لهذا كانت، كما جبهة النصرة، تعتبر قوة مساعدة للسلطة، بغرض تشتيت الثورة وتدمير البيئة الاجتماعية لها، ومن ثم استخدامها في تشويه الثورة (خصوصاً أن عباقرة المعارضة كانوا يدافعون عنهما). وكان ذلك كله ناجحاً إلى حدّ كبير، على الرغم من أن الكتائب المسلحة تصدّت لها، واشتبكت معها في أكثر من منطقة، وطردتها من الشمال في مرحلة سابقة، وواجهتها في دير الزور والبوكمال، وهو أمر كان يخلق عبئاً على الثورة التي باتت تقاتل على جبهتين.

في العراق، كان تنظيم دولة العراق الذي بدا أنه انتهى بعد الحرب التي شنتها "العشائر" العراقية ضده سنوات 2007- 2009، ليظهر بعد أن بدأ الحراك على ضوء الثورات العربية، وليعمل على تشويه الحراك، وليكون مدخل سلطة المالكي للقمع العنيف لهذا الحراك. وكذلك ظهر أن التنظيم ينسّق مع سلطة المالكي، ولقد صدر أكثر من تصريح من مسؤولين في سلطة نوري المالكي يشير إلى دور الأخير في دعم التنظيم، منها إطلاق سراح مئات العناصر التي كانت معتقلة في سجن أبو غريب وإرسالها إلى سورية. وحين بدأت الاعتصامات في ست محافظات ضد السلطة، استخدم التنظيم في التشويش عليها، وفي استغلال وجوده لإرباكها، وفي تبرير سحقها عسكرياً، على الرغم من أن العشائر اشتبكت مع التنظيم مرات عديدة.

بالتالي، كان واضحاً، في السنتين الأخيرتين، أن التنظيم يوضع في خدمة النظامين، السوري والعراقي، في مواجهة حراك شعبي تفجّر من أجل إسقاط النظامين. ولا شك في أن وجوده أثّر كثيراً على الثورة السورية، وشتت قواها وشلّ قدرتها في مناطق عديدة، كما أربك الحراك العراقي، وسهّل سحقه من قوات المالكي التي فضّت الاعتصامات في ست محافظات بالقوة. لكن، كان الأخطر ما قام به في أثناء الحراك العسكري الذي بدأ في يونيو/حزيران الفائت، حيث انقلب على الحراك، بعد أن كان قد "عقد تحالفاً" مع أطراف فيه (مع البعث تحديداً)، فأخذ يمارس ما شوه الحراك، وأربكه كذلك، بعد أن سيطر وحده على الموصل، وفرض تهجير المسيحيين، وأعلن الخلافة. ثم تقدّم نحو أربيل للسيطرة على كردستان، ومارس أبشع الجرائم ضد الأزيديين بعد المسيحيين.

حينها، كان يبدو أن نوري المالكي يستخدم التنظيم لفرض إعادة تعيينه رئيساً للوزراء. لهذا، سمح بسيطرة داعش على قواعد عسكرية، وعبر دور التنظيم أربك الحراك العسكري المضاد له (الذي يبدو أنه توهم أنه يمكن أن يستغلّ دور داعش من أجل السيطرة على بغداد)، وحين لمس تعاطف الأكراد مع الحراك، ورفضهم انتخابه رئيساً للوزراء، دُفع بالتنظيم نحو أربيل. لكن، ما توضّح بعد ذلك يشير إلى أن"المالك الرئيسي" للتنظيم ليس إيران ولا المالكي ولا النظام السوري، بل أميركا التي يبدو أنها كانت تحضّر لتدخّل يغيّر من معادلات المنطقة. فقد استغلت تقدّم داعش إلى أربيل، لكي تعتبر أن من واجبها "حماية قنصليتها" هناك، ومن ثم توسعت في القصف الجوي، وهي تساوم على إبعاد المالكي عن رئاسة الوزراء، ونجحت في ذلك. ثم تقدمت أكثر، وهي تضغط من أجل قبول شروط "الطرف السني" والطرف الكردي، ونجحت بعض الشيء. لكن، لازال الوضع غير مستقرّ تماماً. ثم شكلت "التحالف الدولي" لكي تقبض الثمن المالي من السعودية وباقي بلدان الخليج. وبالتالي، توسعت أكثر فبدأت القصف في سورية، طبعاً ضد داعش فقط. فاندفعت داعش نحو عين العرب، أي نحو الحدود التركية، وها هي تساوم الأتراك لجرّهم إلى التحالف، على الرغم من أن ما يريدونه هو "إسقاط النظام" في دمشق. وهذا ما استثار الأكراد في تركيا، وبدأ يسبب مشكلات لتركيا. ومع تعثّر الحكومة الجديدة في بغداد، عادت داعش لكي "تتقدم نحو بغداد". وهكذا، ليبدو أن كل الهدف من التدخل سياسي، ويتعلق بإيران أكثر مما يتعلق بسورية والعراق، أو يبدو أن الهدف منه، ومن "الزحف الدولي" "ترتيب العلاقة مع إيران" وفق شروط تناسب أميركا التي تريدها في ضمان استقرار الخليج وفي "حصار الصين"، لكنها تريد، كذلك، إعادة التوازن في السلطة في بغداد، بعد أن سيطرت إيران تماماً، بتعزيز دور "الطرف السني" تحديداً، وكذلك الطرف الكردي. وربما يصل التفاهم إلى سورية، بحيث يجري إعادة ترتيب السلطة بالتوافق (وربما لمصلحة إيران أكثر). وبالتالي، التوافق على ترتيب وضع لبنان.

حين يتحقق ذلك كله، سنلمس كيف ستتلاشى داعش، وتغيب عن المشهد، ليظهر شكل جديد لتنظيم القاعدة في مكان آخر. ربما في المرحلة المقبلة في مناطق آسيا، بعد أن شكّل أيمن الظواهري فرعاً هناك. لكن، وفي ضوء تطور الأوضاع في ليبيا والمغرب العربي، يمكن أن نشهد تصاعداً هناك باسم جديد. فهذه هي "الفزاعة" التي تبرر التدخلات، هكذا صنعتها أميركا، وهكذا تمارس من خلالها. وعلى الرغم من "الاختراقات" من دول عديدة للتنظيم، ومحاولة توظيفه في سياسات "خاصة" بهذه الدولة أو تلك، كما فعل النظامان، الإيراني والسوري، فذلك كله يجري بموافقة "المركز" الذي يعود إلى توظيفه في استراتيجيته حينما يبلور استراتيجية تفترض هذا الدور. فقد وظفه النظام السوري لسحق الثورة، ولم تكن أميركا تعارض. ووظفه المالكي ضد الحراك في العراق، ولم تعارض كذلك. لكنها حينما قررت تغيير التوازنات أعادت توظيفه ضمن استراتيجيتها.

لهذا، وجدنا أن كل الهجمات الجوية لا تغيّر من وضع داعش، بل تزيد من قدرتها، وكأن دور الطيران الأميركي هو حماية تقدمها، وليس وقفه، ودفعها إلى مواقع تفيد مساوماتها هنا وهناك. ويبدو الأمر في سورية وكأن المطلوب سحق الكتائب المسلحة أكثر مما هو سحق داعش، ولهذا، تحركت جبهة النصرة، لكي تنهي جبهة ثوار سورية التي كانت المراهنة على دورها في مواجهة داعش، بعد أن واجهتها، مرة سابقة، وطردتها من الشمال السوري. أصبح دور جبهة النصرة تصفية "الكتائب المعتدلة"، لكي يتوسع دور داعش، وتبرر أميركا عدم تسليح الكتائب "المعتدلة"، وتظل ممسكة بورقة التفاوض للوصول إلى هدفها.

إذا كنا في خضم ثورات كبيرة، فقد بتنا، الآن، في "مسخرة" اسمها "الحرب على داعش"، لكنها في الواقع هي الحرب على الثورة، حيث المطلوب تدمير الثورات، وسحق كل إمكانية لنشوبها من جديد. أميركا الآن تتدخل مباشرة من أجل ذلك.