50 عاماً على رحيل غيفارا... أحلام وردية لم تتحقق

50 عاماً على رحيل غيفارا... مسيرة ثائر أممي وأحلام وردية لم تتحقق

09 أكتوبر 2017
كان غيفارا الرجل الثاني في كوبا بعد كاسترو (Getty)
+ الخط -


بعد مرور خمسين عاماً على رحيله، ما يزال المناضل الأرجنتيني، أرنستو تشي غيفارا، الرمز الأول لأتباع التيارات اليسارية في العالم أجمع، وما تزال صوره تزين كراسات وجدران بيوت الملايين في جميع أنحاء العالم.

ولد غيفارا في 14 يونيو/حزيران عام 1928 في مدينة روزاريو الأرجنتينية لأسرة من الطبقة المتوسطة، وكان الأخ الأكبر بين أخوته الخمسة، وعرف عنه في فترة شبابه المبكرة اهتمامه بالشعر والسياسة، كما أنه مارس عدة ألعاب رياضية منها الركبي وكرة القدم.

وتعود ميول غيفارا اليسارية التي ظهرت باكراً، بحسب كثيرين، إلى والده الذي كان يقتني في منزله مكتبة كبيرة تحوي كتابات كارل ماركس ووليم فوكنر وأندريه جيد وكافكا ولينين وغيرهم، حيث عكف غيفارا على قراءة كتب هؤلاء في مرحلة مبكرة من حياته. 

انتقل غيفارا إلى بوينس آيرس عام 1948 لدراسة الطب في جامعتها، وفي عام 1951 أخذ إجازة لمدة سنة للشروع في رحلة يجول خلالها دول أميركا الجنوبية على الدراجة النارية مع صديقه ألبيرتو غرانادو. حيث كان الهدف النهائي يتمثل في قضاء بضعة أسابيع من العمل التطوعي في مستعمرة "سان بابلو" لمرضى الجذام في البيرو على ضفاف نهر الأمازون.

وفي الطريق إلى هناك صدمه الفقر الذي تعيش فيه المناطق الريفية النائية، حيث يعمل الفلاحون في قطع صغيرة من الأراضي المملوكة من قبل الملاك الأثرياء. أبدى غيفارا حينها إعجابه بالصداقة الحميمية بين أولئك الذين يعيشون في مستعمرات الجذام، قائلا "إنه أعلى أشكال التضامن البشري والولاء الذي ينشأ بين الناس في ظل الوحدة واليأس".

حول غيفارا المذكرات التي كتبها خلال هذه الرحلة إلى كتاب بعنوان "يوميات دراجة نارية"، والذي أصبح من أكثر الكتب مبيعاً، وفي نهاية هذه الرحلة وصل غيفارا إلى استنتاج بأن "أميركا اللاتينية ليست مجموعة من الدول المنفصلة، ولكنها كيان واحد يتطلب استراتيجية تحرير على نطاق القارة"، لينطلق من هنا في مسيرته الثورية.


وبعد أيام من تخرجه من كلية الطب في صيف عام 1953 خرج غيفارا في رحلة جديدة قادته إلى بوليفيا وبيرو والإكوادور وبنما وكوستاريكا ونيكاراغوا وهندوراس والسلفادور، ووصل في النهاية إلى غواتيمالا حين كانت حكومتها تقود خطة إصلاح للقضاء على الإقطاع وتحسين ظروف الفلاحين في مزارع الفواكه، وبالفعل قامت الحكومة بمصادرة أراضي "شركة الفواكه المتحدة" التي كانت أكبر مالك للأراضي في البلاد، ووزعتها على الفلاحين، الأمر الذي أثار إعجاب غيفارا ودفعه لاتخاذ قرار البقاء في غواتيمالا.

تعرف غيفارا على العديد من الشخصيات البارزة في غواتيمالا وقابل هناك مجموعة من المنفيين الكوبيين من رفاق الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو لأول مرة، وفي شهر مايو/أيار عام 1964 وصلت قوة عسكرية من تشيكوسلوفاكيا الشيوعية وقتها إلى غواتيمالا، فاجتاحت الولايات المتحدة غواتيمالا وأسقطت الحكومة اليسارية، ونصبت حكومة يمينية تابعة لها، لينخرط غيفارا في صفوف المقاومة مقاتلاً حيناً ومتطوعاً في النقاط الطبية حينا آخر، ليكون ذلك هو المدخل لنضاله المسلح.

لاحظ مؤيدو الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة دور غيفارا في المقاومة فلاحقوه وحاولوا اغتياله ليلجأ إلى السفارة الأرجنتينة التي أمنت له الخروج الآمن إلى المكسيك، ويتزوج هناك من رفيقته في المقاومة في غواتيمالا، إيلدا غاديا، في عام 1955.

وبعد فترة من عمله طبيباً في مستشفيات مكسيكو سيتي، التقى غيفارا برفاقه الكوبيين مجدداً وكان من بينهم راؤول كاسترو الذي قدمه لأخيه الأكبر فيديل كاسترو، الذي شكل حركة 26 يوليو وخطط لإطاحة ديكتاتور كوبا باتيستا.

انضم غيفارا إلى مجموعة كاسترو، وبعد أن كان مقرراً أن يكون مسعف المجموعة، تحول إلى مقاتل فيها، فحصل على تدريبات مكثفة مع عناصر المجموعة، وبعد أشهر وتحديداً في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1956 ركبت مجموعة كاسترو الفدائية البحر باتجاه كوبا. وكانت تتكون من 82 مقاتلاً على رأسهم كاسترو وغيفارا لتشتبك على سواحل كوبا مع مع جيش باتيستا الذي نجح بالقضاء على معظم عناصرها ليبقى منهم 22 مقاتلاً فقط.

تمكنت مجموعة كاسترو وغيفارا من الدخول في عمق كوبا وحصلت على دعم من الفلاحين المحليين والعصابات المناوئة لباتيستا، ومع استمرار الحرب، أصبح غيفارا جزءاً لا يتجزأ من المتمردين وأقنع كاسترو بقدراته ودبلوماسيته، وأقام مصانع لتصنيع القنابل اليدوية، وقام ببناء أفران لصنع الخبز ودرّس المجندين الجدد التكتيكات ونظم المدارس لتعليم الفلاحين الأميين القراءة والكتابة، وعلاوة على ذلك أنشأ غيفارا العيادات الصحية وورش عمل لتعليم التكتيكات العسكرية وصحيفة لنشر المعلومات.

وعرف غيفارا وقتها بقسوته حيث كان يقوم بإعدام الجواسيس والمنشقين، كما عرف أيضاً بإقدامه الذي وصفه كاسترو بالتهور، وازدادت مع مرور الأيام خبراته القتالية وأصبح بارعاً في نصب الكمائن لقوات باتيستا، حتى نجح في ديسمبر/كانون الأول عام 1958 بالسيطرة على جميع مقاطعات كوبا باستثناء العاصمة، التي نجحت قواته بالسيطرة عليها مع ليلة رأس السنة، بعد هرب باتيستا إلى الدومنيكان.

وفي فبراير/شباط عام 1959 تم منح غيفارا الجنسية الكوبية تقديراً لجهوده في الثورة، قبل أن يتم تعيينه مديراً للمصرف المركزي ومن ثم وزيراً للصناعة وممثلاً لكوبا في الخارج ومتحدثاً باسمها في الأمم المتحدة.

قام غيفارا بعدها بجولات دولية فزار عشرات الدول في أفريقيا وآسيا وأوروبا، وبدأ بتطوير علاقات كوبا الدولية، وبالتزامن مع جهوده الدولية ومسيرته في بناء وتنويع الاقتصاد الكوبي، أرسلت الولايات المتحدة في عام 1961، 1400 مقاتل كوبي مدرب لغزو كوبا وإسقاط حكومة كاسترو في الحادثة التي عرفت باسم معركة خليج الخنازير، ومنيت القوات المدعومة أميركيا بهزيمة كاملة، وسجل هذا النصر باسم غيفارا أيضاً، إذ لعب دورا كبيراً في إقناع الاتحاد السوفييتي بإرسال الصواريخ الباليستية والرؤوس النووية إلى كوبا في العام التالي، لتتفجر معها أزمة الصواريخ الكوبية بين الاتحاد السوفييتي وكوبا.

وفي عام 1964 ألقى غيفارا خطاب كوبا في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وانتقد الرأسمالية والفصل العنصري في جنوب أفريقيا والتمييز ضد السود بالولايات المتحدة، ودعا شعوب أميركا اللاتينية وشعوب العالم للثورة، وتعرض خلال زيارته إلى نيويورك إلى محاولتي اغتيال فاشلتين، وفي نهاية نفس العام زار فرنسا وأيرلندا والصين ومصر والجزائر وغانا وغينيا وتنزانيا.

وفي عام 1965 قل ظهور غيفارا في الحياة العامة ومن ثم اختفى تماماً، وكان مكان وجوده لغزاً كبيراً في كوبا حيث كان ينظر إليه عادة باعتباره الرجل الثاني في السلطة بعد كاسترو نفسه.

وتم تعليل اختفائه بفشل خطة التصنيع حين كان وزير الصناعة، وبالضغوط التي كانت تمارس على كاسترو من قبل المسؤولين السوفييت الرافضين لسياسة غيفارا الموالية للصين الشيوعية، والرافضين لتعليقاته حول الانقسام بين الصين والاتحاد السوفييتي، كما يشير كثيرون إلى نشوء خلافات بين غيفارا وكاسترو في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والخطة المجتمعية، الأمر الذي جعل كاسترو يأخذ حذره من تزايد شعبية غيفارا ليعتبره تهديداً محتملاً.


في أكتوبر/تشرين الأول 1965 أرسل غيفارا رسالة إلى كاسترو تخلى فيها نهائياً عن مسؤولياته في قيادة الحزب، وعن منصبه وزيراً، وعن رتبته قائداً، وعن وضعه ككوبي، وقرر المغامرة إلى أفريقيا ليقدم علمه وخبرته بوصفه خبيرا في حرب العصابات إلى الصراع الجاري في الكونغو، لكنه فشل في تحقيق أي مكاسب هناك بسبب التقدم التكنولوجي الذي مكن الاستخبارات الأميركية، التي دعمت حكومة الكونغو، من رصد اتصالاته وكشف مخططاته.

انتقل غيفارا بعدها إلى بوليفيا حيث أراد أن يرص صفوف الحركات التحررية في أميركا اللاتينية لمجابهة توسع النفوذ الأميركي. ومع بداية عام 1967 وجد غيفارا نفسه مع مقاتليه العشرين، وحيداً يواجه وحدات الجيش المدججة بالسلاح في براري بوليفيا الاستوائية. أراد أن يمضي بعض الوقت في حشد القوى والعمل على تجنيد الفلاحين حوله، ولكنه أجبر على خوض المعارك مبكراً.

وأثناء المعارك ألقي القبض على اثنين من مراسلي الثوار، فاعترفا أن غيفارا هو قائدهما، فبدأت حينها مطاردة لشخص واحد. وبقيت وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" على رأس جهود الجيش البوليفي طوال الحملة، فانتشر آلاف الجنود لتمشيط المناطق الوعرة بحثاً عن غيفارا ورفاقه.

وبعد أربعة أشهر من المطاردة وفي يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش البوليفي مجموعة غيفارا المكونة من 16 فرداً، وتم أسره بعد إصابته برجله، ليتم إعدامه في اليوم التالي بإطلاق النار عليه.

وقد رفضت السلطات البوليفية تسليم جثته لأخيه أو حتى إخبار أي أحد بمكانه أو بمقبرته حتى لا تكون مزاراً لأنصاره من كل أنحاء العالم. وشبّت أزمة بعد عملية اغتياله وسميت بأزمة "كلمات غيفارا" أي مذكراته، وقد تم نشر هذه المذكرات بعد اغتياله بخمسة أعوام وأصبح رمزاً عالمياً. 

رحل غيفارا، الثائر الأممي، وهو المعروف بأنّه حالم، بعدما تنقل في بقاع الأرض ليقاتل من أجل الثورة والفقراء؛ لكن دون أن تتحقق أحلامه الوردية، في ثورته، أو بعد مماته.