30 يونيو الرابع: نقطة انفجار شعبوي آخر في السودان؟

30 يونيو الرابع: نقطة انفجار شعبوي آخر في السودان؟

26 يونيو 2020
+ الخط -
تحوّل الثلاثين من يونيو/ حزيران إلى علامة فارقة في تاريخ الانفجارات الشعبوية في المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية. ولعل أولها وأسوأها سمعة هو أن ذلك اليوم عام 1989، تاريخ انقلاب العقيد عمر حسن أحمد البشير على الديمقراطية الثالثة في السودان. ولكن الانقلاب كانت له خلفية شعبوية، استخدمت في شعاراتها قضيتين متداخلتين لتحريك تيار جماهيري واسع: شعار الدفاع عن "الشريعة الإسلامية"، الذي لم يكن كافياً وحده لإيجاد كتلة جماهيرية حرجة، ولا لكسب الجيش لصالحها. ولهذا استخدم أيضاً التلويح بخطر داهم على عروبة السودان الشمالي، مثلته الحركة الشعبية لتحرير السودان وانتصاراتها المتلاحقة في الأعوام 1985 - 1988، حيث بدا الجيش السوداني في الجنوب على حافّة الانهيار، ما دفع قيادته إلى توجيه إنذار رسمي (بدا تهديداً بالانقلاب) في فبراير/ شباط عام 1989، طالبت فيه باتخاذ خطواتٍ حاسمةٍ لدعم الجيش وتحريك جهود السلام. سبقت ذلك لحظة فارقة أخرى في سبتمبر/ أيلول 1985، تمثلت في الإعلان عن محاولةٍ انقلابيةٍ اتهمت بها جهات موالية للحركة الشعبية بعد بضعة أشهر من الانتفاضة الشعبية التي أطاحت حكم جعفر النميري في إبريل/ نيسان من ذلك العام. انتهز حزب الجبهة القومية الإسلامية هذه السانحة، للعودة من هامش الفعل السياسي إلى قلبه، عبر تحريك الشارع تحت شعار دعم القوات المسلحة، والتلميح لخطر اجتياح الحركة الشعبية شمال السودان. وبالفعل، قلب الحضور الجماهيري الكثيف في ما ما سمّاه الحزب وقتها "المسيرة المليونية" الموازين، وساعد في تحقيق مكاسب انتخابية غير مسبوقة في عام 1986، ثم لتحريك الشارع بعد إقصائه من الائتلاف الحاكم بعد مذكرة الجيش.
وكنت قد فصلت في دراسة أكاديمية نشرت في دورية "شؤون أفريقية" (African Affairs, 1990)، في ظاهرة الاستقطاب هذه، وملامحها الشعبوية في الشمال والجنوب معاً، مشيراً إلى أن صعود الإسلاميين كان يستند أساساً إلى "القومية الشمالية"، مقابل تمثيل الحركة الشعبية لـ"قومية جنوبية". هنا نجد ملامح الحركات الشعبوية من حيث معاداتها للنخبة الحاكمة من جهة، واتهامها بأنها لا تدرك المخاطر الحقيقية التي تواجه البلاد، بل وتتآمر مع "العدو". وقد كانت لهذه التوجهات، كما هو معلوم، نتائجها الكارثية على شمال السودان وجنوبه معاً.
يختلف منظرو الشعبوية على كنهها، حيث يراها بعضهم "أيديولوجية مرنة" (thin
ideology)، يمكن أن تكون يسارية أو يمينية، أو حتى فاشية. بينما يراها آخرون استراتيجية سياسية، ويضيف غيرهم أنها نوعٌ من الخطاب السياسي. وهي في مجملها معادية للنخبوية، وتزعم أنها تمثل الشعب المغلوب على أمره من خيانة النخب وعجزها. بالقدر نفسه، فإن الشعبوية لا تصبر على الضوابط الإجرائية، من انتخابات وقضاء وتحالفات "نخبوية"، وترى ضرورة الحسم وتجاوز هذه الشكليات. وهي لهذا تلتف حول زعيمٍ تراه قادراً على تقديم الحلول الفورية، مثل دونالد ترامب اليوم في أميركا، أو بوريس جونسون في بريطانيا، وأمثاله في بولندا والمجر والبرازيل والفيليبين، .. إلخ. وهكذا نجد ترامب وأنصاره يتهمون القضاء والكونغرس والإعلام وكل مؤسسات الدولة الرسمية بأنها معادية للجماهير، وفاسدة ومتواطئة مع الأعداء، فهي لا تريد حسم قضايا مثل الهجرة، والإرهاب، وبناء جدار الحدود المكسيكية، ومواجهة المنافسين التجاريين مثل الصين والاتحاد الأوروبي، .. إلخ. ويرتبط الخطاب الشعبوي بالتخويف من المخاطر الكامنة، والمؤامرات الخفية، والخيانات من الداخل، .. إلخ. بل هي تشكك في "الخبراء"، خصوصا الاقتصاديين، بل وحتى خبراء الصحة كما في حال كوفيد - 19 الذي ما زال بعضهم يراه مؤامرة.
وقد استخدمت الجبهة الإسلامية هذا الخطاب الشعبوي، بداية من التحذير من فساد النخبة "العلمانية"، وموالاتها دول الاستكبار، وممالأتها أعداء الأمة والقوات المسلحة من حركات تمرّد ودول أجنبية تدعمها، وعمالة لمخابرات تلك الدول، وتنكّر لقيم الأمة وثوابتها، .. إلخ. ولكن العامل الحاسم يظل دائماً تمثل خطر "وجودي" في عدو داخلي متواطئ مع عدو خارجي، يهدّد كيان الأمة وكل عزيز لديها.
اتّبعت هذه الاستراتيجيات نفسها في حراك 30 يونيو 2013 المصري، المعادي للإخوان المسلمين وحكم الرئيس الراحل محمد مرسي. وقد كرّرت في غير هذا المكان أن السجال حول ما إذا كان الانقلاب على مرسي ثورة أو انقلاباً لا معنى له خارج نطاق معطيات أيديولوجية، لها صدى أكاديمي و"شعبوي" يقدس الثورة، ويراها نوعاً من الحراك المقدس، ويستهجن الانقلابات ويستقبحها. أما إذا اتفقنا على أن الثورة حراكٌ شعبيٌّ واسع، والانقلاب تقوم به فئة من العسكر، فليس من الضرورة أن يُفضّل هذا على ذاك. فأنا أعتقد بالفعل أن حراك 30 يونيو المصري كان ثورة "شعبوية"، حرّكها خطاب إعلامي "شعبوي" يحذّر من مخاطر تتمثل في عدو داخلي (الإخوان)، مدعوم من أعداء خارجيين (قطر وتركيا وأوباما وهيلاري كلينتون والاتحاد الأوروبي، وحتى الأسطول الأميركي الذي روّج المروجون أساطير عن "أبطال مصريين" ردعوه). ولا ننسى حركة حماس وحزب الله، اللذين وصلت قوات كوماندوز مشتركة منهما، اجتازت حدود مصر وفلسطين، وحرّرت مرسي وإخوانه من سجنهم، ثم عادت، تحت جنح الظلام، إلى قواعدها كما لو كانت جن سليمان عليه السلام! المهم أن الجماهير صدّقت هذه الأساطير، وخرجت إلى الشوارع، فكان ما كان.
ولكن الثورات ليست كلها خيراً، فالثورات الفاشية والنازية كانت انتفاضاتٍ شعبوية، قادتها أحزاب 
جيدة التنظيم، وكذلك الثورة البلشفية في روسيا وقبلها الثورة الفرنسية. بالقدر نفسه، كانت مذابح رواندا "ثورة" شعبية مكتملة الأركان، شارك فيها الملايين. هناك انقلاباتٌ تحولت في ما بعد إلى حراك ثوري، لم يكن بدوره كله خيراً، مثل انقلاب جمال عبد الناصر في مصر، وانقلاب معمر القذافي في ليبيا، وبالطبع انقلاب البشير في السودان، الذي سعى إلى إجراء تغييرات "ثورية"، طاولت معظم نواحي المجتمع السوداني.
في المقابل، فإن حراك 30 يونيو عام 2019 لم يكن يحتوي جرعةً كبيرةً من الخطاب الشعبوي. ولا بد أن نضيف هنا إن الشعبوية بمعناها الخفيف كامنة في كل خطاب سياسي، فلا تخلو خطبة أمام "جماهير الشعب العظيم" لأي سياسي، مهما كان حظّه من العقلانية والحكمة، من مركّبٍ ينسى فيه نفسه، وينطلق لسانه بكثير من المبالغات والدعاوى الكبيرة، حيث يثمّن بطولات أسلافه وطهارة أنصاره وإخلاصهم، ويضخّم إنجازاته، ويرفع حزبه إلى مكان يقارب المصطفين الأخيار، ويصف خصومه بكل نقيصة، ويعرض نفسه صانعاً للمعجزات، متصدّياً لإصلاح ما فسد وجعل بلاده العظيمة أصلاً أكثر عظمة، وهكذا. أما أنصاره فيهللون ويكبرون، على الرغم من أن معظمهم لا يأخذ ما يقوله الخطيب على محمل الجد. وفي المقابل، لو أن السياسي قال لجماهيره الحقيقة، واعترف مثلاً بأن الحزب الآخر له خطط أفضل، وأن وصوله إلى الحكم قد يعني اتخاذ إجراءاتٍ تضر بمصالح أنصاره، فإنه لا بد أن يسارع للبحث عن وظيفةٍ أخرى. وقد علق أحد ظرفاء خبراء السياسة على مناداة الرئيس جورج بوش الابن في الكونغرس عقب احداث "11 سبتمبر" في 2011 الإرهابية بالانتقام ضد من وصفهم بأنهم يكرهون حريتنا، ويحسدوننا، .. إلخ، قائلاً: لو أن الرئيس بوش قال لمستمعيه دعونا نعترف بأن سياساتنا الخاطئة هي التي أدّت إلى هذا، لما خرج من من تلك الغرفة حياً!
بهذا المعنى، فإن مسيرة يونيو 2019 التي دعا إليها تحالف "إعلان الحرية والتغيير" الذي قاد 
الثورة، كانت معتدلة في شعبويتها. هدفت المسيرة إلى إعادة التوازن بعد فض الاعتصام السلمي أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم (وفي معظم المدن السودانية الأخرى)، وإثبات أن الثورة مستمرة. وكان المجلس العسكري قد أعلن إيقاف التفاوض مع التحالف، وشعر بأنه كسب الجولة، بينما عزّزت قوات الدعم السريع وجودها في كل الشوارع، وفي وقتٍ تراجعت فيه مظاهر الحراك السلمي بعد صدمة فض الاعتصام. وقد اختلف الحراك السوداني عن رصيفه المصري ليس في الترتيب فقط، وإنما في الهدف والأثر. ففي السودان، سبق "الانقلاب" الثورة، حيث كان فضّ الاعتصام في الثالث من يونيو، والثورة في الثلاثين منه، وهزمت الثورة الانقلاب، ولم تمهد له. فقد اضطر المجلس العسكري للتراجع عن تشدّده بعدما فاجأه الدعم الشعبي الكبير لتحالف للثورة. وساعدت المبادرة الإثيوبية الطرفين في تقديم تنازلاتٍ كسرت الجمود، ولكنها ولّدت الاحتقان الذي أدّى إلى المسيرة المنتظرة.
في المقابل، فإن المسيرة (وبالأحرى المسيرات التي دعت إليها أطراف متشاكسة) الحالية، هي نموذج النماذج للحراك الشعبوي كما ظهر من أجندتها وخطابها. وإذا كانت الطائفة الأكبر من دعاة الحراك تمثل قواعد ثورة ديسمبر 2018، ممن كانوا مُشاتَها ومقاتليها، ومن اكتوى بنارها، وقدّم أكبر التضحيات، فلن يكونوا الوحيدين في الساحة، فقد دخلت على الخط جهاتٌ أخرى، بعضها بأجندات منافسة (مثل أنصار الحزب الشيوعي المهيمن مع حلفائه على الحكومة الحالية، ويريد استخدامها لتعزيز موقعه وقمع منافسيه، أو تجمّع المهنيين المنقسم على نفسه)، أو مناقضة (مثل بعض خصوم الحكومة الحالية من مختلف الاتجاهات، وهم متفقون على إطاحتها، ولكنهم مختلفون جذرياً حول البديل). وتعود نقمة "مشاة الثورة" على جنرالاتهم الذين أصحبوا حكّام اليوم إلى شعور بأنهم لم يحققوا للجند ما كانوا يصبون إليه، بل أصبحوا متهمين بأنهم "باعو الثورة" وانحازوا للعدو، وولغوا في الفساد وخدمة المصالح الذاتية أو الحزبية، وفشلوا في معالجة الأزمات الاقتصادية والصحية. وهناك وجه اختلاف مهم عن الحركات الشعبوية التقليدية التي تبحث عن قائدٍ مُلهم، لأن الحراك المنتظر يرى أنه هو الشعب وقد حضر بنفسه إلى الميدان. والمسيرة، بهذا المفهوم، تريد أن تسير على خطى ديمقراطية أثينا المباشرة ويعقوبية الثورة الفرنسية في الوقت نفسه، فحسب ما رشح من خطط القوم، فإنهم يريدون أن يكونوا جمعية وطنية في الشارع، وربما نصب المقاصل أيضاً. ستقوم هذه "الثورة" التي هي "الشعب" في الوقت نفسه بتعيين حكومة جديدة من الميدان، ومجلس تشريعي كذلك، وتخلع المركّب العسكري في المجلس السيادي، وتعيد تكليف جهة جديدة بتحديد المتهمين بفض الاعتصام في يونيو/ حزيران العام الماضي وملاحقتهم، وتأمر باعتقال أنصار النظام السابق والبدء في محاكمة المعتقلين منهم، وتعيد تشكيل الشرطة والأجهزة الأمنية، .. إلخ. بمعنى آخر، تعيد أيام روبسبير ولينين معاً في قلب الخرطوم.
وبسبب طبيعة الحراك ومطالبه الراديكالية، من الصعب تحديد من سيكون الرابح في هذه الجولة، ولكن من المؤكد من سيكون الخاسر: عبد الله حمدوك وحكومته والقطاع المهيمن اليوم من قوى الحرية والتغيير.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي