28 عاماً على اغتيال الرئيس بوضياف: من دبّر الجريمة؟

28 عاماً على اغتيال الرئيس الجزائري بوضياف: جريمة دون جواب

30 يونيو 2020
الحقيقة مازالت ضائعة (رياض قرامدي/ فرانس برس)
+ الخط -

رغم مرور قرابة ثلاثة عقود على اغتيال الرئيس الجزائري، محمد بوضياف، ما زالت الألغاز المحيطة بالجريمة لم تكشف بعد، برغم استمرار المطالبات بذلك.
ففي 29 يونيو/ حزيران 1992 شاهد العالم على المباشر كيف تعرض بوضياف للتصفية بعد فترة قصيرة من بدء خطاب له في دار الثقافة بمدينة عنابة شرقي الجزائر، حين أطلق العضو في فريق الحرس الرئاسي مبارك بومعرافي النار عليه. ولم يمضِ بذلك بوضياف سوى فترة قصيرة في المنصب الرئاسي، بعدما تسلم الحكم في 26 يناير/ كانون الثاني 1992 بعد انقلاب الجيش واستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد.


"باش فاتونا (بماذا سبقونا) في الغرب، فاتونا (سبقونا) بالعلم"، كانت تلك آخر كلمات بوضياف، قبل أن يعلو صوت الرصاصات الغادرة في القاعة التي كان يلقي بها خطابه. وبعد مرور 28 سنة، ما زال ناصر بوضياف نجل الرئيس الجزائري الراحل يتمسك بضرورة الكشف عن حقيقة الاغتيال المدبر الذي شهدته المنصة الرئاسية في دار الثقافة بعنابة. ولا يبدو ناصر وأفراد عائلته، كما الغالبية من الجزائريين مقتنعين بالرواية الرسمية للحادثة، التي تقول إن بومعرافي، دبر الاغتيال بمفرده لأسباب سياسية تتعلق بموالاته لـ "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي كان قد تم حظر نشاطها في مارس/ آذار من العام نفسه.


ومنذ سنوات يخوض ناصر بوضياف معركة الحقيقة لكشف من دبر اغتيال والده، ويتمسك بأطروحة أن المخابرات الجزائرية هي التي تقف وراء الاغتيال. ويتهم ثلاث شخصيات عسكرية بتدبير الاغتيال، هم القائد السابق لجهاز المخابرات، محمد مدين، القابع في السجن، والقائد السابق للجيش وزير الدفاع خالد نزار الفار إلى إسبانيا، والجنرال محمد تواتي.
وجدد ناصر بوضياف الاتهامات للمسؤولين، ونشر على حسابه بموقع "فيسبوك": " قتلة #محمد_بوضياف رحمه الله مازالوا على قيد الحياة... أحدهم هو الان متواجد في #السجن... و الثاني في حالة فرار وهو متواجد في #برشلونة... وثالثهم في مكان ما في الجزائر
#من_هم؟؟؟؟".


ويعد بوضياف من أبرز المساهمين المباشرين في تفجير ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وقاد ثورة التحرير حتى عام 1958، عندما اعتقل من قبل السلطات الفرنسية في حادثة قرصنة الطائرة التي كانت تقل قادة الثورة الجزائرية في المغرب.
وظل معتقلاً حتى التوقيع على اتفاقيات ايفيان بين "جبهة التحرير الجزائرية" والسلطات الفرنسية في 19 مارس/ آذار 1962، وبعد استقلال الجزائر اختار العيش في المنفى بعد خلافات مع الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة.
وبقي بوضياف في المنفى حتى يناير 1992، حيث تمت دعوته من قبل قيادات الجيش الجزائري إلى ترؤس المجلس الرئاسي الذي تم تشكيله عقب استقالة الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد، بالتزامن مع أزمة توقيف المسار الانتخابي التي أدخلت البلاد في دوامة العنف والإرهاب.
بعد دقائق من بدء خطابه، استغل لمبارك بومعرافي الستار الذي كان خلف الرئيس الجزائري لإلقاء قنبلة صوتية على المنصة التي كان يلقي كلمته منها ومعه عدد من المسؤولين المحليين، قبل أن تسمع زخات من الرصاص أطلقت على الرئيس فأصابته إصابات بالغة. ولم يكن يرافق بوضياف في زيارته تلك أي وزير بمن فيهم وزيرة الشباب والرياضة ليسلى عسلاوي التي كانت زيارة الرئيس بوضياف إلى عنابة تدخل في نطاق قطاعها الوزاري. كما لم يرافقه أي مسؤول سامي وهذا في حد ذاته أمر مثير للريبة.
بعد الجريمة فر المنفذ إلى الخارج وسلم نفسه الى أقرب مركز للشرطة، لكن نقل الرئيس إلى المشفى لم يسعفه في شيء.
اغتيال مدبر؟
إثر ذلك وتحت الضغط الشعبي والسياسي، اهتدت السلطة إلى تشكيل لجنة تحقيق ضمت شخصيات حقوقية ومناضلين في الحركة الوطنية، من رفقاء الرئيس بوضياف في النضال. وتوصلت اللجنة إلى بعض الخلاصات التي لم تكن محل إجماع بشأن صيغة "الفعل المعزول" لقاتل الرئيس، ولكون بومعرافي نفذ الجريمة بناء على قناعاته المتشددة، وللانتقام من الرئيس بسبب حظره حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، وتوقيعه قرار إقامة معسكرات الاعتقال في الصحراء لمناضلي الجبهة.
كما تم تسريب رسالة مكتوبة بخط اليد نسبت إلى بومعرافي قيل إنه وجهها إلى صديق له، لدعم "اعترافاته"، لكن هذه الرواية لم تقنع أحداً، بل إن عدداً من أعضاء لجنة التحقيق كالناشط الحقوقي يوسف فتح الله، رفضوا التوقيع على هذه الخلاصات ليتم اغتيال هذا الأخير لاحقاً في وضع غامض.


لكن تقرير اللجنة حمل أيضاً جملة من الأسئلة تقود باتجاه وجود اغتيال مدبر، خاصة وأن قائد جهاز المخابرات آنذاك، الجنرال محمد مدين اتخذ بنفسه قراراً بإدماج مجموعة تدخل خاصة لدعم فريق الحماية الرئاسية في عنابة، وتصرف أفراد التدخل للمرة الأولى كوحدة حماية مقربة من الرئيس. كما أن إدماج الملازم مبارك بومعرافي في مجموعة التدخل تم في آخر لحظة، وكان يحمل أمراً فردياً بمهمة ولم يكن اسمه في قائمة فريق التدخل في الأول وتم وضعه خلف الستار.
يضاف إلى ذلك أن مسؤول مصلحة الأمن الرئاسي، المعروف باسم الرائد هجرس، لم يكن يعلم بوجود مجموعة التدخل الخاصة. وتساءل التقرير عن سبب عدم تدخل عناصر الحماية الرئاسية القريبة عند سماع دوي القنبلة اليدوية، كما أنه عند إطلاق النار كان سعد سلال المكلف بحماية ظهر الرئيس والحامل للواقية من الرصاص كان جالساً وسط القاعة على بعد 12 متراً من الرئيس.

أكثر من ذلك يثير تسليم بومعرافي لنفسه لمركز الشرطة قراءة أخرى، تذهب باتجاه أنه علم أن تنفيذه خطة الاغتيال (إذا صح أنها مدبرة من المخابرات)، سيتبعها بالضرورة وضع قاتل آخر للإجهاز عليه لطمس كل آثار الجريمة. وقد اختار بومعرافي نهج سياسة الصمت خلال أطوار محاكمته، وقد أدين بالسجن المؤبد وأودع سجن سركاجي وسط العاصمة الذي كان يعج بالإسلاميين وما زال قيد السجن حتى الآن. وفي محاولة على ما يبدو لمحو آثار الجريمة تم ترتيب محاولة لقتل بومعرافي في سجن سركاجي بعد عشر سنوات على اغتياله بوضياف، بدعوى اندلاع تمرد داخل السجن راح ضحيته عدة سجناء آخرين، لكن سجناء إسلاميين قاموا بحمايته منعاً لقتله.

إلى ذلك، ما زال يحول قانون المصالحة الوطنية الصادر في سبتمبر/ أيلول 2005، دون إعادة فتح ملف اغتيال الرئيس بوضياف، إذ ينص بوضوح على منع التداول مجدداً في ملفات "المأساة الوطنية"، تجنباً لإحياء الجراح.


ويوفر القانون بنظر الكثير من الحقوقيين، فرصة للمسؤولين عن تدبير الأزمة الأمنية خلال العشرية السوداء للإفلات من العقاب وعدم تحمل المسؤولية، لكن ذكرى هذا الاغتيال السياسي تعود هذا العام في ظل معطيات جديدة قد تكون مساعدة على كشف الحقيقة والإقرار بها.
فالحراك الشعبي قلب المعادلة السياسية في الجزائر، وسمح بتحييد عدد كبير من العسكريين ورموز جهاز المخابرات البارزين في فترة الاغتيال والأزمة الأمنية في التسعينات، فهل يكون أحد العوامل المساعدة في الوصول للحقيقة وإعادة فتح ملف هذه الجريمة السياسية؟

المساهمون