2018..قيم مختلة وغطرسة أميركية وفشل أوروبي وشرق أوسط مُغيّب

2018 دوليا.. قيم مختلة وغطرسة أميركية وفشل أوروبي وشرق أوسط مُغيّب

26 ديسمبر 2018

خاشقجي الحاضر الغائب في مهرجان عنه باسطنبول (11/11/2018/فرانس برس)

+ الخط -
كيف يمكن تقييم السنة التي تشرف على وداعنا؟ إنّه السّؤال الذي نطرحه، كل عام، لنخرج بحصيلةٍ نراجع بها ما حدث، ونستشرف، من خلالها، سنة مقبلة. بالنسبة لعام 2018، يكاد الأمر يشكّل استثناءً لكثرة الأحداث التي شهدتها، والتي ستترك، حتما، انعكاساتٍ على حركية المجتمع الدُّولي، بل النّظام العالمي برمّته. 
يمكن، لتقييم تلك الحصيلة، الانطلاق من مسلّمةٍ مفادها الخروج على ما اعتدناه من التحيّز لمنظوراتٍ أتاحها لنا العقل المعرفي الغربي، قصد فهم تلك الأحداث. ولا يمكن القيام بذلك إلاّ بالاعتماد على مستويين للتقييم، تكون الأولوية فيها لمستوى القيم، ثم البحث في الأحداث، وخصوصا التي لها صلة بقضايانا الإسلامية – العربية، مع إخضاع تلك الأحداث لرؤيةٍ متعمّقة، لعلّنا نخرج من التّقييم باستجابة لتلك التّحديات التي تتيحها كلّ من القيم والأحداث المفروضة علينا، دونما قدرة منّا على مبادرةٍ لتغيير مسارها، أو التّأثير في مضمون الضّغط الذي تمارسه علينا جميعا.
القيم.. رؤية متجدّدة
شكّلت سنة 2018 فارقا من حيث كمّ القيم التي شهدتها، والتي تشير إلى انقلاب كبير في سُلّمٍ ظلَّ، في ظنّنا، يحكم الخلفية التي ترتكز على أساسها حركية العالم، صانعة للوعي الغالب، وعي القوّة، الابتكار والمبادرة.

بدايةً، هل في العلاقات الدولية قيم؟ وهل هي أساس التصوّر والإدراك لحركية النظام الدولي؟ سؤالان حيويان، تسمح الإجابة عليهما بفسح المجال أمامنا لاستنتاج صورة القيم، وكيف أنها من تقف خلف الوعي الذي نراه الآن ماثلا يصنع الفهم لحركية النظام الدولي، ويبرّر له مساراته الطاغية.
وحتى لا يُظنّ الحديث، هنا، عن المثالية، أي الأخلاق والمُثُل العليا على شاكلة العدالة، المساواة، والخير، يتم الإقرار بأن صيرورة المصالح/ المكاسب/ الخسائر هي ما تحكم حركية النظام الدولي. لكن، على الرّغم من ذلك كلّه، لا يمكن إغفال أن ثمّة قيما تقف وراء سلوك الدول في النظام العالمي، لتعظيم تلك المصالح/ المكاسب وتحجيم الخسائر، وهي قيم إدراكية، تمر من خلالها تلك الصيرورة في منظومةٍ تعرف بالاستراتيجية، العقيدة العسكرية والمسلكية في النظام الدولي، وتشترك فيها جميع الدول، أيا كان حجمها، وأيا كانت استراتيجيتها، وبالتالي، رسالتها القيمية لتجسيد وجودها في مسرح العلاقات الدولية.
انطلاقا من هذا التّأكيد، نصل إلى توصيف تلك القيم الصادرة من منظومة تصنع تلك الحركية، وترسم وتيرة تأثيرها على مجمل الأحداث. وتتضمن، وفق صاحب هذه السطور، خطوات ستّ: الفكرة، الإدراك، التّخطيط، التّنفيذ، التّقييم، التّقويم، ثم التعلّم والاستشراف. لا يمكن لأية قيمة أن تكون ذات تأثير إذا لم تنطلق مشبعةً بذلك المسار الذي تنبعث منه، ليكون قويا ومؤثرا، رساليا ومبادرا، صانعا للتأثير وموجدا لصورة عالم تصبغه بتلك القيم.
كيف ارتأت أميركا أن تعادي العالم الإسلامي كلّه، بما فيه حلفاؤها الذين نزعت منهم ورقة التوت التي كانوا يتغطّون بها، وينوّمون بها شعوبهم، بقرار نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس؟ ألم يكن ذلك منطلقا من تلك المنظومة القيمية التراتبية التي زادها زخما السيل الجارف للعولمة بشركاتٍ وصلت قيمتها في البورصة، بالنسبة لبعضها، إلى حجم اقتصاديات قارّاتٍ بكاملها؟ وللمفارقة، تلك الشركات كلّها أميركية (آبل، غوغل، ياهو، أمازون) وصانعة للعالم الافتراضي، أو مستفيدة منه، على غرار شركة أمازون للتجارة عبر الإنترنت.
تضع الإجابة على هذين السّؤالين أصابعنا على تلك المنظومة القيمية، وما يحرّكها لتصبح بذلك الزّخم، حيث إن قرار أميركا معاداة العالم الإسلامي لم يأت من فراغ، بل تولّد عن تلك المنظومة التي أصبح الوعي بها أساس التقدم أو الرّضا بالخضوع. وهي قيم، كما نرى، كلّها حركة، ومنبعها منظومة من الإبداع والابتكار تنطلق من الإنسان، وتنتهي بما توفّره له من أسباب القوّة.

الحديث هنا عن الإنسان الغربي الذي انحازت إلى جانبه، ولمصلحته هذه المنظومة، سواء كان ذلك بالمفهوم الجغرافي، أو بالمفهوم المعرفي والإدراكي لتلك المنظومة، وإعمالا لها في حقل الإبداع والابتكار صانعة لوعي القوّة والمبادرة، لينقسم العالم بذلك إلى قسم يبادر ويبتكر، وآخر يستهلك ذلك الإبداع، لبعضهم، ويكون موضوعا له، لمن يجب أن يكون حقل تجارب لتلك المنظومة (تكنولوجيا، صناعة وأسلحة).
هناك ملاحظة هامة هي أنّ منظومة تلك القيم بديلة عن الآراء التي نراها منتشرة في كلّ مكان، مدّعية وجود "نظرية للمؤامرة"، يتحكّم في تحريك خيوطها "حكماء صهيون"، وتنفّذها دمى وُضعت، هنا وهناك، من نُخب، رؤساء وقادة يعملون، في الحقيقة، لصالح "حكومة عالمية" و"ماسونية جارفة"، لتجسيد سيطرة اليهود، كما زعموا، على العالم.
بالنّتيجة، ليس العالم دوائر المركز والهامش، وليس عوالم أولى، ثانية وثالثة، بل هو عالمان. الأوّل منهما إبداع وابتكار والآخر عالم استهلاك أو حقل تجارب لذلك الإبداع والابتكار.
مراجعات واختلالات
شهد العالم في 2018 أحداثا غطّت أجزاء كبيرة من العالم، تؤكّد ما تقدّم من تأثير تلك المنظومة القيمية على حركية النظام الدولي، وهي المنظومة التي يمكن أن نراجع، من خلالها، المنظورات التي حاولت الدائرة المعرفية الغربية نشرها وإسقاطها تفسيرا لتلك الأحداث. من تلك المنظورات، نظريتان، نهاية التاريخ لصاحبها فوكوياما وصدام الحضارات للمفكر هنتنغتون. وقد ظهرتا، كلاهما، بعد سقوط القطب الشيوعي وصعود أميركا قطبا وحيدا حاكما للعالم، أشارتا، في الوقت الذي ظهرتا فيه، إلى عالمٍ انتهت فيه مصائر الشّعوب والأمم بانتصار الرأسمالية، بوصفها منظومة قيمية تصنع العولمة، وتقرّر أرزاق ومصير مقدرات الأرض برمّتها، في حين أنّ الأخرى، وإن اعترفت بالوضع الذي أصبحت فيه أميركا صاحبة القرار العالمي ممثّلة لمنظومة قيمية غربية منتصرة، إلاّ أنها فطنت إلى أن العالم من غير الممكن أن يبقى في سلام، لأن دورة الرأسمالية بين الكساد والتنمية لا تجد حلا لكساد سلعها، ومنها الأسلحة، إلاّ من خلال دورة صراعية، فيكون للمنظومة القيمية دور في تحديد طبيعة العدّو والقيم التي تُشكّل التّهديد لقيم الغرب وفهمه للسّلام والحرب في العالم.

ومع رفضنا ذلك التحيّز المعرفي الغربي، نجد أنفسنا مدفوعين لتبنّي تحيّز مضادّ لمنظومةٍ تجمع بين ذلك النظام التراتبي لقيم توجد الاهتمام بالإنسان، وتعمل على العروج به إلى مراتب المواطنة الحقّة من دون تمييز بين هذا وذاك من الناس، انطلاقا من لون البشرة، الدّين أو الانتماء لمنظومة معرفية وقيمية بذاتها، كما يفعل الغرب. ويشير هذا التحيّز إلى وجوب إبداء حجج الرفض لتلك القيم الغربية، وتقديم منظومة بديلة، يكون محورها الارتقاء بالإنسان، ومقصدها بناء أسباب القوة احتواء للاستكبار الغربي واستقلالية عن دائرة تأثيره، بداية، ومن ثمّ الانتقال لصنع العالم البديل، على المديين، المتوسط والطويل.
وتشير النظريتان إلى ضرورة إجراء مراجعة للمنظومة التنظيرية المتجهة إلى تفسير ما يحدث في العلاقات الدولية، ارتكازا على تلك المنظومة القيمية، من دون التفاتٍ إلى منظورات أخرى، ناشئة من عوالم تقيم للإنسان دورا، وكان يمكن أن تنشأ في إثرها تفسيراتٌ أكثر إنسانيةً، بعيدا عن خطي الكساد والتنمية والتفاعل الصراعي المنجرّ عنهما في إطار حركية المنظومة الرأسمالية التي يشكل فيها الإنسان دور السلعة. ويكون الفاعل الأكبر فيها هو السوق وحركيته والفاعلون الرّئيسيون فيه هم حملة الأسهم وأصحاب الشركات، ليس إلاّ.
على سبيل المثال، لم نر، إلى الآن، جدلية يتموقع فيها خيار الشعب في الغرب ضد خيارات السوق، كما شاهدناه في قضية "بريكست"، مسار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إثر استفتاء اختار فيه الشعب البريطاني الابتعاد عن التجمع الاندماجي الأوروبي. ولكن لوحظ أن المفاوضات لترسيم ذلك الخروج طال كثيرا، إلى درجة أن بعضهم تحدث في بريطانيا، مهد الديمقراطية الحديثة، عن إمكانية اللجوء إلى استفتاء آخر، ذلك أن السوق رفض ذلك الخيار، بالنظر إلى الانعكاسات التي يجرّها على بريطانيا، باعتبارها مركزا ماليا دوليا.
وشاهدنا كيف أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، رفض الأخذ في الحسبان احتمال تورّط شخصٍ في دائرة الحكم في العربية السعودية في قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، متحجّجا بصفقاتٍ عديدة، وقّعتها الولايات المتحدة مع المملكة، ووظائف عديدة يمكن أن تتضرر في حال إلغاء تلك الصفقات.
بالنتيجة، بدأت المنظومة القيمية الغربية في الانهيار، بمجرد بروز جدلية السوق والإنسان. وبالتالي، فان نهاية التاريخ يكون مرادفا للقرار المتّخذ من السوق بقتل الديمقراطية، بدايةً بعقد اتفاقات مع نخبة العالم الثالث لإبقاء الحكام، على الرغم من الإرادة الشعبية، ثم انتقل ذلك إلى الغرب، لأن السيل الجارف للعولمة لا يمكنه أن يكون متوائما مع حقوق الإنسان ومع الخيارات الشعبية. ولتأكيد هذا المنظور، نورد فكرة أميركية وردت عن الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد هو بول رومر للعام 2018، ونقلها عنه وأعاد نشرها السياسي الألماني غونتر نوك، مستشار المستشارة الألمانية لشؤون القارة الإفريقية، مفادها بأن معالجة إشكالية الهجرة غير الشرعية لا يمكنها أن تنتهي إلاّ بتمكين الشركات الغربية من الاستثمار في السياسة العامة المحلية
الإفريقية، أي تحويل تسيير المدن وفق دفاتر شروط (ميثاق) إلى تلك الشركات الغربية، توفيرا لخدمات توفر مناصب شغل، ومستويات من الخدمات، تحول دون انتشار الظلم الاجتماعي، وبالتالي الهجرة غير الشرعية. وقد أطلقت على هذه السياسة "الاستعمار الإرادي"، أي أنه استعمار برضا الأفارقة الذين سيسلّمون، مرّة أخرى، على شاكلة مؤتمر برلين جديد، القارة للاستعمار، لأن السلطات المحلية للبلاد الإفريقية لا يمكنها الوصول إلى مستوى خدمات، ومساواة اجتماعية، يحتوى مد الهجرة غير الشرعية الذي تعتبره أوروبا والغرب عموما التهديد الأكبر.
إنّها الاستراتيجيات الجديدة التي لا يمكن أن تبرز إلاّ من مخيّلة المنظومة القيمية الغربية، المتحيّزة للرّبح قيمة مقدّسة، تسمح بالتّضحية بكلّ القيم الأخرى، ومنها الإنسان الذي حاولت تلك المنظومة تقديمه على أنه قيمتها العليا، في إطار ثلاثية الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، أخوة)، ثلاثية ابتُكرت لترقية حقوق إنسانٍ بعينه، حيث أبان الغرب، و فرنسا في المقدمة بقيمها تلك، على احتفاء خاص بقتل ملايين من البشر خارج القارة الأوروبية، قصد فتح أسواق جديدة للرأسمالية.
تلك إذن هي منظومة القيم التي تحكم العالم حاليا. عملت على الارتقاء بالتنافس، لتصبح حربا. وعملت على تهميش كلّ القيم، لتجعل من السوق القيمة العليا التي عليها مدار الحرب والسلام، وهي المنظومة التي قضت على موجات الديمقراطية الأربع التي تغنّى بها هنتنغتون، بل أضحى العالم تحت إمرتها، بتفاعل صراعي لا متناهٍ، فاسحة المجال أمام تعطّش العالم لمنظومةٍ بديلةٍ، تعلو بقيم أخرى، محورها الإنسان وقدسية النيل من حقوقه وكرامته.
شهد العالم في 2018 أحداثا جساما في مستوى الانقلاب الذي أشير إليه بالنسبة للمنظومة القيمية التي تحكم حركية النظام الدولي. وشهد، أيضا، غطرسة أميركية، حيث وجد الأميركيون، تحت قيادة الرئيس، دونالد ترامب، في الانحياز ضد القضايا العربية والإسلامية، الرّهان الذي حرّكوا، على أساسه، منطقةً ما زالت قلب العالم على أكثر من مستوى، منطقة الشّرق الأوسط.

المنطقة العربية والإرهاب والاستبداد
بدا الانحياز الأميركي ضد كل ما هو عربي – إسلامي، انطلاقا من إدراج ترامب، غداة انتخابه رئيسا، بلدانا عربية في قائمة البلدان التي يمنع مواطنوها من دخول التراب الأميركي، وصولا، في هذا العام، إلى قرار خطير يندرج تحت مسمّى "صفقة القرن"، الهادفة إلى القضاء على القضية الفلسطينية، وهو نقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس، مساهمة في تفكيك إضافي للقضايا التي ما زالت تشكل أساس النكبة، وفي مقدمتها عاصمة فلسطين الأبدية، القدس. ولم يأت القرار منفردا، بل رافق حزمة قرارات أميركية، منها إيقاف الدعم لمنظمات اللاجئين دفعا للفلسطينيين، وإرغاما لهم على إبرام صفقةٍ تنتهي بها القضية برمّتها، بل يتم، على أساسها (القرارات والصفقة) فرض النسيان في العقل الجمعي العربي والإسلامي لقضية اسمها فلسطين التاريخية.
وعلى الرّغم من علم أميركا برفض الشعوب العربية والإسلامية هذه الصفقة، إلاّ أنّ ثمة قطيعة سمحت لترامب بالولوج منها وعبرها، لفرض هذا الأمر الواقع. وهي القطيعة التي تزداد هوّة، يوما بعد يوم، بين الشعوب وقادتهم، وخصوصا بعد ارتداد ما عُرف بالرّبيع العربي ثوراتٍ مضادّة، انقلابات وفشل ذريع على أكثر من مستوى.
ولم يكن للصفقة أن تنطلق بأكبر الخطى، وأخطرها، بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، موقّعة  بذلك على الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، حيث أضحى النّفط، في منطق التعامل على طريقة ترامب، سلعة أميركية التّحديد من حيث السّعر، بإقرار قانون تعاقب بموجبه أميركا أي دولة ترفع سعره إلى أكثر من 70 دولارا، كونه السعر العادل بالنسبة للمستهلك والصناعة الأميركيين.
كما سعت أميركا إلى تعزيز وجودها في المنطقة، بتغطيتها على الجرائم ضد الإنسانية التي تُقترف منذ سنوات في سورية واليمن. وقد توصّل ترامب إلى اعتبار ذلك كله ردّات فعلٍ على حربٍ إستراتيجية يشنّها ضدّ الإرهاب.
أمّا الانحياز للكيان الصهيوني فقد فاق كلّ ما يمكن تخيّله، بل إنّ أمن ذلك الكيان أصبح محور أيّ ترتيباتٍ يتمّ التّفكير في تجسيدها. وعلى أساسها يتمّ إضعاف الجميع، والتفرّغ لإمداده بكلّ مؤهّلات القوّة الأمنية والدّفاعية ومناصرته في المحافل الدولية، أو ما يطلق عليه أميركيا "مؤسّسات الشرعية الدولية" التي تتحكّم فيها، رفقة قوى الاستكبار العالمية، سواء بالفيتو في مجلس الأمن، أو بالمال الوفير في صفقات ومساعدات.

ولم تتوان الولايات المتحدة، تقويةً لحليفها، الكيان الصهيوني، والتغطية على تجاوزات حلفائها الآخرين، عن استخدام آليتي النّكوص على المعاهدات الدّولية (معاهدة مع إيران وأخرى مع البلدان الكبرى بخصوص التغيُّرات المناخية، إضافة إلى معاهدة نافتا مع المكسيك وكندا). والعقوبات ضد كلّ من إيران، من ناحية، والفلسطينيين، من ناحية أخرى، ما يعزّز الإستراتيجية الأميركية في تفكيك العلاقات الدولية. ويمكن التنويه، هنا، إلى أن ثمّة قرارات اتّخذها ترامب، قد تكون بمثابة عقوباتٍ على غرار مرافعته ضدّ الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وانتقاده لهم بشأن مشاركتهم الضعيفة في ميزانية الحلف، وجهوده الأمنية والدفاعية.
أمام هذه الغطرسة الأميركية التي تخلّلتها تلك السّلوكات، إلى جانب تنافس شديد على المستوى الاقتصادي مع الصين، وبلدان كثيرة أخرى، حتى الحليفة منها، شهد العالم في 2018 مزيدا من الفشل الأوروبي من خلال "البريكسيت"، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الفشل الأمني – الدفاعي، حيث وصل الأمر بالأميركيين إلى درجة الاستهزاء من تصريح فرنسي - ألماني بشأن إنشاء جيش أوروبي، مهماته الأساسية الدفاع عن أوروبا.
إضافة إلى التفكّك الذي يشهده الاتّحاد الأوروبي، ما زالت القارّة العجوز عاجزةً عن فرض نفسها في المحافل الدُولية فاعلا له استقلالية عن الولايات المتحدة، كما أن القارة لم تثبت قدرتها على الاستقلالية بقرارها الأمني – الدفاعي، ما يُفاقم من تبعيتّها الإستراتيجية في الحلف الأطلسي، ويقلّص من دورها في إدارة الأزمات الدولية، وهو ما يبرز بخصوص القضية الفلسطينية والملف النووي الإيراني الذي لم تعرف كيف تواجه بشأنه العقوبات المحتملة على الشركات التي تواصل التعامل مع إيران، والتي سارعت، مضطرّةً، إلى الاذعان للتّحذير الأميركي، من تحرّك أوروبي، على الرّغم من محاولة الأوروبيين الأعضاء في مجموعة 5+1، والتي وقّعت الاتّفاقية مع إيران، التمسك بالاتّفاق وإنقاذه، من دون جدوى.
يدل الواقع على أن الاتّحاد الأوروبي يسير بخطى ثابتة نحو أزمة وجودية، وإن حاول الثنائي الفرنسي - الألماني إنقاذه، خصوصا أن ذلك تزامن مع صعود التيّار الشعوبي (اليمين المتطرّف) في أكثر من بلد أوروبي، وفي مقدمها دول كبرى، على غرار إيطاليا. والنتّيجة، في الأخير، تقليص للدّور الأوروبي دوليا، وإبراز لتشابه يزداد، يوما بعد يوم، مع شعوبية ترامب، لتصبح العولمة عولمة رفض الآخر، المُمثّل في المهاجرين، وتحميله أسباب أزمات الغرب الاقتصادية. وبالتّالي بناء استراتيجيات سياسية كبيرة، ليس لها من أهداف إلاّ رفض الآخر والارتماء بصفة أكبر في أحضان اليمين المتطرّف.
وإذا كان هذا هو حال الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي، وهما قطبا العالم ومحركّاه الأقوى، فإن حال الشّرق الأوسط، بسبب ذلك، قيما وأحداثا، تسوء أكثر فأكثر، ليُغيب تماما من ساحة التفاعلات الدولية، وليبقى رهان التفاعلات الصراعية وقلب "قوس الأزمات" بامتياز.
ما يُميّز عام 2018 أنّه جمع على المنطقة ثلاثي الشرّ المركّب: الإرهاب، ارتهان القضية الأم (قضية فلسطين)، واستمرار الاستبداد بل تجذّره.
وأصبح مفهوم الإرهاب مرادفا للمسلمين والعرب، بل إنّ أبناء المنطقة، أنفسهم، أضحوا يلوكون المفهوم بالمعنى الغربي، لتكون المقاومة من المستضعفين، ومنهم الفلسطينيين، هي الإرهاب بعينه، وينتفض العالم بشرعيته الدولية وبأسلحته لمحاربة الإرهاب في إطار "حرب عالمية ضد الإرهاب" (أُعلنت غداة هجمات 11 سبتمبر)، ولتُبنى الإستراتيجية الأطلسية على تعريف التهديد بأنه التهديد الإسلامي أو "الإرهاب الأخضر".
كما تأسّست على هذا الفهم إستراتيجية تبعية/ تبادل منافع بين نخبتي القوى الكبرى والبلدان المنتفعة الحاكمة في البلدان الضعيفة، ومنها بلدان العلم العربي – الإسلامي، لتكون النتيجة دورة اقتصادية كاملة، على خلفية ذلك كلّه، حيث يستمرّ العمل بإستراتيجية تحديد مناطق التّهديد الإرهابي. وعلى إثرها، تُعلن الحرب ضد الإرهاب، وتُعقد صفقات أسلحة ضخمـــــــة، ويبقى المتنفّذون على كراسيهم، من دون تغيير يُذكر.
يتأسّس على ذلك، أيضا، ترسيخ الفهم الجديد للمقاومة، بحيث يصبح مرادفا للإرهاب، وتضيع معه قضيّة العالم العربي- الإسلامي، قضية فلسطين، بل يتوسّع، ليشمل حتى حقّ التظاهر والاحتجاج في هذه البقعة من الأرض، لأنه مرادف لخطر استيلاء البعبع الإسلاموي على الحكم، وتشكيل خطر على الغرب والكيان الصهيوني. وينتشر، تبعا لذلك، تعريفٌ للتغيير بحدود دنيا وخطوط حمراء لا يجب أن يتعداها، وإلاّ كان البديل: الانقلاب، الثورة المضادة، التدخل الأطلسي.

قوس الأزمات، في الحقيقة، هو قوس الخطر، أو قوس التّغيير المحدود للإنسان الذي يحمل في جيناته التّهديد والخطر للغرب ولقيمه. وبالتالي، يحتاج الغرب احتواء هذا الخطر، وتحجيم خطره: داخليا بإدامة الاستبداد، وخارجيا بإدامة إستراتيجية تحديد هويّة العدو، وكيفية التعامل معه، ما يخدم أهداف النّخبة الداخلية، لإدامة حكمها، والخارجية في إدامة وجود عدّوٍّ، لاستمرار دائرة الصراع وأرباح المحور الصناعي العسكري.
وتنتهي دائرة الشرّ المُسلّط على المنطقة بالعنصر الثالث: الاستبداد. انّه العنصر الذي يكمل تلك الدائرة، لكنه العنصر الذي بدونه لا يمكن للعنصريْن المذكورين أن يوجدا، أو يستمرّا في تغييب المنطقة من تفاعلات العالم التعاونية والصراعية.
كأنّ الزمن لم يتحرّك منذ بدايات القرن العشرين، عندما تحدّث عبد الرحمن الكواكبي عن طبائع الاستبداد، وشخّص دلائل وجوده، مراميه وكيفيّة النّجاة منه، حيث يستمرّ الاستبداد مشكّلا الاستثناء الوحيد، على مستوى الخريطة العالمية، ليكون العالم العربي - الإسلامي المنطقة الوحيدة التي ما زالت موجات الديمقراطية بعيدة عنه. وحتّى عندما انتشر الأمل مع حراك عفوي في العام 2011، وغطّى فضاء المنطقة، ارتدّ، بفعل تلك الخطوط الحمراء الإستراتيجية لقوس الأزمات/ الخطر التي ورد شكلها أعلاه، ثورات مضادّة، تهديم للدول، وتحريك لنعرات عرقية/ مذهبية، انتهت بتمايزاتها، مع سيل العولمة الجارف، في كلّ العالم، وبقيت حيّة عندنا فقط.
انتهى ذلك الحراك وما قبله (غزو العراق) إلى تفكيك المفكّك، وتجزئة المُجزّأ. أربعة عواصم عربية تمّ تهديمها بما تحمله من تاريخ ورموز حضارية لماضي الذّكر والانتصار. تعدّد الأعداء، وكلّهم أعمل معاوله لينال جزءا من حصّة تلك الأجزاء: تركيا بعثمانيتها الجديدة، إيران بهلالها ومدّها الصّفوي – الشّيعي، والكيان الصهيوني بتهيئة أجواء الصفقة الكبرى: صفقة القرن.
انتهى ذلك الحراك، أيضا، إلى تحدّياتٍ لم تُرفع، رهاناتٍ كانت المنطقة موضوعا لها، وفرص تمّ تضييعها. واستمر الاستبداد. وبالنسبة للتحديات، يمكن الإشارة إلى الحرية، المواطنة، بناء الدولة ونموذج اقتصادي، وكلها فشلت بفعل السياسة العامة التي لم تأخذ في الحسبان المواطن، بل عملت في إطار دورة التبعية لإدامة الاستبداد، من ناحية، واستراتيجية الغرب، من ناحية أخرى. أما الرّهانات، فقد أدّى ذلك الفشل إلى وضع المنطقة في مؤخّرة المؤشّرات الأمنية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، ليجعل منها دولا فاشلة، أو قريبة من الفشل. وكانت النتيجة أنّ المنطقة برمّتها أضحت غائبةً عن اللّعبة الإقليمية، وما يتبعها من أدوار قيادية، حيث أضحت ساحة لتسيّد دول غير عربية، تعمل كلّها وكيلة للمصالح الغربية. وهي إيران، تركيا والكيان الصهيوني. وليس ذلك إلاّ بسبب الفرص الضائعة التي أتاحها النفّط، بموارده الكبيرة، للانطلاق في مسار دورة التّنمية وبناء الدولة والاقتصاد معا، ومعهما المواطن في كنف الحرية والكرامة. وكان في وسع ذلك أن توجد فرصة تبوّء مكانة القوة الإقليمية لأكثر من دولة: سورية، العراق، السعودية، الجزائر، المغـرب ومصر، وهي الدول القاطرة لمشاريع القوّة والاندماج الحقيقية، بما لها من قدرات وإمكانات.

عن آفاق 2019
دائما ما تنتهي الحصيلة، لسنة تنقضي، بمحاولةٍ لرسم شكل المستقبل المنظور، ذلك أن المعطيات المتوفرة على مستوى القيم، أو الأحداث التي شهدتها سنة 2018، تمنحنا فرصة تخيّل شكل العام المقبل، عام قد تشهد بدايته انطلاق مسار المراجعة لقيمة الحق في مواجهة قيمة القوة بشأن قضية الصحفي السعودي المقتول غيلة في إسطنبول، جمال خاشقجي، وذلك بعد بروز بوادر خلافات في مسؤولية القيادة السعودية، في عملية الاغتيال بين مؤسستي الرئاسة، من ناحية، و الكونغرس ومجلس الشّيوخ، من ناحية أخرى.
ولا يعني هذا أن الولايات المتّحدة ستكون، في النّهاية، مع الحقّ، ولكنها ستوجد قطيعة، إن اتّبعت مسار تلك البوادر، وانتصرت لرؤى المشرّعين، بين كيانين، هما الدّولة السعودية التي ستستمر المصالح الإستراتيجية معها والشّخص المقرّب من القيادة السعودية والضّالع في تلك الجريمة المرشّح للإدانة، ثمّ المحاكمة.
على مستوى القيم، أيضا، قد تنتصر الدّيمقراطية للمواطن الغربي في مسألتين حيويتين: خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، والسُّترات الصّفراء في فرنسا، خصوصا أنه، وفق تلك القيمة، لن يكون الخاسر الأكبر فيها هو السّوق، بل يشكّل ذلك تراجعا تكتيكيا في انتظار بروز معطيات اقتصادية أفضل، لتمرير مشاريع رأسمالية، شركات وحملة أسهم.
وبما أنّ 2019 ليست سنة انتخابات كبرى في أي من البلدان المؤثرة في العالم، فإنّ الأمور مرشّحة للبقاء كما هي، إلاّ على مستوى تمرير صفقة القرن، تجذّر الاستبداد، وتعميق قيمة الاستهتار بكرامة المواطن العربي وحقوقه، حيث الأمور مرشّحة، عكس ذلك، إلى التردّي أكثر فأكثر.
أخيرا، المفارقة هي تزامن الانتهاء من أزمة الحراك في سورية، وعقد الصفقة الكبرى، لدفن ما تبقىّ من القضية الفلسطينية، فالتردّي والارتداد عن الحراك هو الفاتحة لتمرير ذلك المشروع، ما يعني أن ثمّة "نهاية حقيقية للتاريخ"، بالنّسبة للعرب بشأن استحالة التغيير واستعصاء التحوّل نحو الحريّة، يوما ما.