بطانة السوء في مثال عربي متكرر

بطانة السوء في مثال عربي متكرر

16 يناير 2019

(Getty)

+ الخط -
عاش الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، حياة خاصة متقشفة، بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معنى، وليس في المنقول الشفوي من سيرته أية إشارة إلى أنه كافأ نفسه يوماً بنزهة باذخة، أو بجلسةٍ مترفة، خلال جولات سفره المتلاحقة في أربعة أرجاء الكرة الأرضية، أو بين ساعات عمله الطويلة في مكاتب منظمة التحرير، ثم في مقر رئاسة السلطة الوطنية.
وعلى النقيض من أي زعم آخر، في شأن تواضع عيش الرجل الذي بات رمزاً تاريخياً خالداً، يقال إن مساعديه ومستشاريه ومرافقيه وحراسه كانوا يختلقون الذرائع ليغادروا، كلما حان موعد تناول طعامه، كي لا يضطرّوا إلى مشاركته ما درجوا على تسميته "عشاء الملائكة" المغرق في بساطته، فضلاً عن إصراره المعروف على ارتداء بدلة "الكاكي" العسكرية منذ استطاع تكريس نفسه زعيماً لحركة فتح، عام 1965، مروراً بتربّعه على قيادة منظمة التحرير، عام 1968، واعتلائه منبر الأمم المتحدة، عام 1974، وإبرامه اتفاقيات أوسلو داخل حديقة البيت الأبيض الأميركي، عام 1993، وصولاً إلى انقضاء أجله، عام 2004.
لكن بعضاً مما لا خلاف على صحته من تاريخ واضع اللبنة الأولى في المشروع الوطني الفلسطيني أن زهده المعيشي ذاك، وكذا مهارته في الإمساك بدفّة قيادة منظمة التحرير، والقفز بين الحبال العربية والدولية، كانت تتوارى كلها، عندما يختار بطانته، بل تختفي إلى حد طالما أثار الجدل بين طائفتين من المهتمين بهذا الشأن، أصرّت أولاهما على أن تلتمس له العذر بضعف خبرته الاجتماعية، أو تدنّي معرفته بمعادن الناس، في ظل انهماكه بالعمل السياسي. ولم تتوان الثانية عن اتهامه باستخدام أعطيات المناصب القيادية، والمال الذي كانت لديه منه قناطير مقنطرة، لفرض سيطرته الشخصية وتعزيز نفوذه الفردي على المؤسسات القيادية.
على أي حال، وبصرف النظر عن النيات والتفسيرات، فإن سلوك عرفات الإداري والتنظيمي أدى أولياً إلى تقريبه أشخاصاً معروفين بفسادهم، ومخبرين مرتبطين بأنظمةٍ عربية ودولية، ثم عملاء مكشوفين لإسرائيل، سيما في السنوات القليلة التي سبقت وفاته، بوصفهم "أحذيةً لا بد من استخدامها لاجتياز المستنقع" كما كان يقول، في مقابل إبعاده شخصياتٍ وطنيةً تميزت بنظافة اليد، ومناضلين قضوا أعمارهم يبدعون في خدمة المشروع الوطني التحرّري، متأثراً ربما بوشايات أولئك على هؤلاء، واستخدامهم أسلوب الزنّ الذي قيل قديماً إن له مفعول السحر.
وهكذا صارت ثلة مستشاري "الختيار" والمحيطين به، في معظم مراحل حياته، أشبه بهيئة مندوبين لجهاتٍ إقليمية ودولية عدة، يراكمون الثروات المالية في حساباتهم الشخصية، وينخرون المؤسسات الوطنية، لصالح القوى التي ينتمون إليها، في حين كانت نخبةٌ من مبدعي الشعب الفلسطيني ومناضليه تنكفئ إلى زوايا الإقصاء، فيموت كثيرون منهم في الوطن والمنافي قهراً، أو برصاص الاغتيال الذي لا أحد يعرف مصدره، في حال واصلوا كفاحهم ضد العدو.
وإن تكن الأمور بخواتيمها، كما يقال، فليس أدلّ على فداحة ما اقترف أبو الوطنية الفلسطينية، مثل انتهاء حياته بالطريقة المريبة التي انتهت إليها، وانفلات من ظنّ أن في وسعه استخدامهم "أحذيةً لاجتياز المستنقع" كي يستكملوا، بعد موته، تدمير ما لم يدمروه من قبل في المشروع الوطني، عبر تنازعهم على السلطة والنفوذ، إلى حد التفريط بمصير البقية الباقية من أرض الحلم بالاستقلال، وتسابقهم إلى نيل رضى المستعمر الإسرائيلي، بأي ثمن.
لا يكفي، إذن، أن تتوفر في الحاكم، أو القائد، مواصفات القدرة الشخصية، أو حتى النزاهة الوطنية، وسيظل مآل عرفات مجرّد مثال من تجارب عربية متكرّرة، على ما قد تفعل بطانة السوء، في بيئةٍ تخلو من الرقابة الديمقراطية الحديثة، ويندر أن تجد بين أكنافها من يجرؤ على الاقتداء بالوصية القديمة التي قالها عمر بن عبد العزيز لأحد ولاته: "إذا ملتُ عن الحق، فضع يدك في تلابيبي، ثم هزّني بقوة، وقل لي: ماذا تصنع؟".
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني