يوميات شال أبيض

يوميات شال أبيض

17 مارس 2014
عمل لـ مروان نحلة
+ الخط -

أسْقَطَني حَجَرٌ


1
في الحياةِ الأُولَى كُنتُ طائراً بِجَناحين

أسْقَطَني طفلٌ بِحَجر
والْتَهَمَ جَناحَي في غَفْوَةِ الجوعِ
والآن قَصيدتي تطيرُ رَغْماً عنِّي
لكنَّ صَوتي لمْ يصلْ

2

كنتُ في حياةٍ أُخْرَى غزالاً شارِداً
يكتبُ القصائدَ بِرَشاقةِ الهروبِ
سَأَكْتُبُ لَكُمْ يَوْماً عمَّا رَأَيْتُ

3

دَخَلْتُ عزاءً
ومَعي جَناحٌ فرَّ من المذْبحة
فكِدْتُ أُلْقِي السلام
أخْرَسَتْني آيةٌ عنْ طائِرٍ فصيحٍ
فخرسْتُ حتى أَكْشِفَ السرّ
ورأيْتُ مُعَزِّين يَلُوكون عِلْكَةً من حَجَر
وأَفْواهُهُم مُغْلَقة
ورأيتُ المَيِّتَ بيْنَنا
يُدَنْدِنُ مُوسيقَى مُلائمةً للصورِ
التي يَطْرُدُها المُقْرِئُ الضريرُ بانْتِظامٍ
عنْ كَهْفٍ ينامُ فيهِ عابِدون
وكَلْبٌ يحْرُسُ أحْلامَهُم
قبلَ أنْ يَنْتَهي تأثيرُ المُخَدِّر
انْتَهى الصوتُ
شَكَرَنا الميتُ على التبَرُّعِ بِآياتِنا المُطْفَأَةِ
وأغْلَقَ السرادقَ
وسَحَبَ المقاعِدَ إلَى النهرِ القريبِ
يُخَلِّصُها منْ ذُنوبٍ عالِقَةٍ
وتَرَكَني وَحْدي
سَأَلْتُ جاري قبلَ أن يقومَ من مقامهِ:
منْ هذا الذي يُنْهي الحفلَ بلا كَلِمَة ؟
قالَ إنَّهُ المَيِّت نُعِدُّهُ للخُروجِ
فَسَكَتُّ وأَعَدْتُ آيَتي إلى جَيْبي مِنْ غيرِ سُوءٍ

4

مَّرة ذَهَبْتُ للْبَحْرِ وَحْدِي
لِأَرْقُبَ الطيورَ التي تَفِرُّ
فأسْكَتَني غِناءٌ شفيفٌ حول شجرةٍ مائلَةٍ
ولمْ أسْتَطِعْ الكلامَ
انْتَحَيْتُ جانباً حتى تَمُرَّ قوافلُ الموجِ
ولا أَعْرفُ للآنَ أينَ يذهبُ الموجُ بعدَ أنْ يُغَنِّي
وهلْ يعودُ بعدَ اكْتِمَال الدائِرَةِ
كانَ الجَبَلُ بعيداً يُصْغي
والطيورُ التي جِئْتُ من أجْلِها صامتةً
فَوَاصَلْتُ سُكُوتي حتى انْتَهى الموجُ من الغناءِ
وعُدْتُ وحيداً

5

مرة دَخَلْتُ مشفى فأَخْرَسَني الطبيبُ حتّى لا يُلَوِّثَ صَوْتي
جُرْحَيْن مَفْتوحين يطوفان حوْلَ جُثّةٍ تَبْكي
غادَرْتُ المَشْفى بِصَمتٍ جريحٍ
وقرَّرتُ أن أقْطَعَ لِساني أو أَرْهَنه مقابلَ وجبةِ عشاءٍ
معَ عاصفةٍ
فما حاجَتي لِعُضْوٍ عاطِلٍ عن العملِ
نَزَفْتُ كثيراً
وسَقَطَتْ منْ وراءِ الجُرْحِ قبائلُ وطرائدُ وقصائدُ
أَخْبَرَني الطبيبُ وهو يُسَلِّمُني حِفْنَةً منْ أوْراقِ المَطرِ
هذا ما جَمَعْناهُ منْ تحتِ اللِّسانِ
وما قَدرت على حَمْلِهِ المُمرضاتُ وهُنَّ يَنْقِلْنَ لُغاتٍ
وقبائلَ إلَى الخزانَةِ البيضاء
لِلآن لمْ أسْتَطِع فكَّ ضفائرِ القصائدِ على البحرِ أو في المَشْفَى
فَعُدْتُ للعزاءِ
أَتَهَيَّأُ للخُروجِ
منْ سُرادِقِ الغَمامِ
أَوْقَعَني حجرٌ تَرَكَهُ طفلٌ بالطريقِ
ووَرَقٍ عابرٍ فوقَ بَرْكَةِ المَطَرِ




يوميات شال أبيض

إلى محمود حربي

1

وَحْدي أقرأُ الوِرْدَ
فَتُرَدِّدُ المرْآةُ صورةَ الصَّدى

2

أَدْنو كثيراً من النورِ فيَضحكُ وَجْهٌ مُغادِرٌ
ويَخْتفي ظِلِّي
والماءُ يَتَوضَّأُ

3

شالٌ أبيضٌ فوقَ مقْبَرَةٍ
يَلُمُّ دموعَ اللَّهِ فيَغْتَسِلُ حُلْمٌ مُغادِرٌ

4

سألْتُ صاحِبي :
لماذا سَقَطَتْ تعريشةُ العنبِ
وأنْتَ تَخْطو على العَتَبَةِ ؟
فقال: يَسْبِقُني خَمْري لِلْجَنَّةِ

5

رُبْعُ قَرْنٍ وأنا أرْفُضُ الرَّحيلَ
ففي طَرفي عَلامةٌ وآياتٌ لا تَبْلَى
وسُلالةٌ تَطْلُعُ من وُضوئِي

6

رَحَلَ صاحبي مُنذ رُبْعِ قَرْنٍ

ثُمّ سَقَطَتْ تَعْريشةٌ
وجَفَّتْ شجرَة
طَربوشٌ أحْمَر مَلَّ البقاءَ
فَشاخَ في خزانَتِهِ
وأنا أَقْرَأُ كلَّ يَوْمٍ وِرْداً لَمْ يَلْحَقْهُ الفَجْرُ
وأنْفُضُ الغُبارَ عن ذاكِرَةٍ


7

في اليومِ السابِعِ أَنْذُرُ للماءِ صوماً
فَلَنْ أُكَلِّمَ اليومَ إنْسِيَّا
أجْلِسُ وَحْدي مُنْتَظِراً صلاةَ المطرِ




أَكْتُبُ لِلْمَوْتَى


ألْقَيْتُ لِطُيورِ البَحرِ وبَطِّ البُحيرةِ الجانبيةِ
كُلَّ ما كانَ مَعي منْ فُتاتٍ
فانْتَعَشَ الموجُ بِصرْخَةِ الغِناءِ
ومَرَّتْ كاميراتٌ أمْطَرَتْ الطيورَ بالضوء
عُدْتُ أُفَتِّشُ حَقيبتي بَحْثاً عنْ خُبْزٍ إضافِيٍّ
لإطْعامِ الموجِ
لمْ أَجِدْ الحقيبةَ في الحافلةِ
ولا البحرُ كان حاضِراً مناقَشَةَ الكتابِ
سَأَلَني طائرٌ مُنْتَشٍ يَرْقصُ حولَ رأْسِ فتاةٍ عابرةٍ:
ماذا أطْعَمْتَنا اليومَ؟
في الأدْراجِ اكْتَشَفْتُ أنَّ نِصْفَ قَصائدِي غَرْقَى
والنصْفَ مَبْتورَ السيقانِ
فَعَرَفْتُ سِرَّ رَبْكَتي أَمامَ الأسْئِلَةِ
ورَأَيْتُ النوارسَ تطيرُ حولَ نافِذَتِي
تُغَنِّي كَلِماتٍ لمْ أكْتُبْها لَكِنَّها آلَمَتْنِي
وأَنَا أُهَذِّبُ حَوافَّها المُدَبَّبَةِ لِأَسْرِقَ سِرَّهَا
مِنْ يَوْمِها وأَنَا أَكْتُبُ لعَابِري السبيلِ الظَّمْأَى
ولِلْمَوْتَى
على جُدْرانِ مَقابِرِهِم
حتَّى لا يَخْطِفَ المُغَنُّونَ فُتاتَ الكلامِ
المُتَناثِرِ في البحرِ
وأنَا أُقْنِعُ الطيورَ أنَّ حَقيبَتِي فارِغَة..



* شاعر من مصر

المساهمون